تبدو الحاجة اليوم إلى معرفة موقع ''النقد الأدبي'' في خارطة الخطاب الثقافي المعاصر أكثر من ضرورة، لا سيما مع انبثاق خطاب نقدي جديد يتمثّل في (النقد الثقافي) الذي اعتبره الكثيرون من المبشرين به أمثال (عبد الله الغدامي) الدليل التاريخي على نهاية عصر النقد الأدبي· إن إعادة النظر في مصطلح (النقد الأدبي) لها ما يبررها إذن، بالنظر إلى تشكّل معالم واقع ثقافي جديد سواء في العالم أو في الجزائر، أهمها انحصار أفق الثقافة النخبوية أمام المدّ الكاسح للثقافة الجماهيرية ذات الطابع الاستهلاكي والآني والحسي· والبعض يُرجع السبب إلى دخول الثقافة الإنسانية طورا جديدا مع تبدّل في الوسيلة الثقافية، أقصد التكنولوجيات التواصلية الجديدة، فأصبح الواقع شديد الحركة، ومعادٍ للتأمّل، وهو ما يجعلني أصفها بالثقافة غير الصبورة (من الصبر)· في هذا السياق الجديد، أضحى النقد الأدبي معنيا بهذا التحدي الجديد، خاصة وأنه كخطاب يرتبط بشكل عضوي بالأدب، فهو من حيث التعريف الشائع له هو خطاب على خطاب (رولان بارت)· فإذا كان الأدب كأهم الأشكال الثقافية الرمزية في التاريخ الثقافي الإنساني يعاني من أزمة مقروئية، وانحصار أفق تلقيه في الدائرة الضيقة التي تزداد يوما بعد يوم ضيقا تتمثل في حلقة (النخبة)، فكيف ستكون حالة النقد الأدبي إذن؟ النقد الأدبي بين اللاأدبية واللاعلمية وحتى لا نغرق في الطابع التجريدي للموضوع، لا بأس أن تكون عتبة النقاش مفتوحة على ظاهرة ''الجوائز الأدبية'' التي تُمنح للأعمال الأدبية· ما الذي يعنيه ذلك؟ نلمّح منذ البداية إلى حجم الاهتمام الثقافي بالأدب بكل أشكاله، طبعا مع امتياز خاص ممنوح للرواية، إلا أن الغائب الأكبر هو (النقد الأدبي) فلا تخصص له جوائز مثلا بالحجم الذي تخصص للأدب· فهذا الخطاب مازال يعاني من تلك النظرة السلبية التي تجعله مجرد خطاب ثانوي، وقد صدق الناقد الكندي (نورثروب فراي) لما وصف هذه الظاهرة في كتابه المهم (تشريح النقد)، بقوله: (وما تزال النظرة التي ترى الناقد كائنا متطفلا أو فنانا لم تكتمل قدرته، نظرة شائعة جدا، خاصة بين الفنانين)· وهو ما عبّرت عنه مواقف الكثير من الأدباء والفنانين في كل الآداب والعصور عن احتقارهم للنقد والنقاد، فهذا (شاتوبريان) الأديب الفرنسي الشهير يلعن النقاد ويطالب بتكميم أفواههم، وعندنا كان (رضا حوحو) يصف النقد بثرثرة العجائز·· إلخ إلى غير ذلك من الأحكام القاسية التي نزّلت النقد في دراكات الهامش· كان المنظور الثقافي الذي صُنفت به الخطابات الثقافية مبنيا على الثنائية التالية: الأدب والفن يمثلان الأصالة والروح النقية للإبداع والخلق، أمّا النقد الأدبي والفني فهما نشاطان هامشيان، وقد كشف الناقد الفلسطيني الأمريكي (إدوارد سعيد) أنّ المناهج الدراسية في المدارس والجامعات الغربية عمدت إلى تشجيع طلبة الأدب على الابتعاد عن ضبابية النقد، والاقتراب قدر المستطاع من المعايير الراسخة للكتابة الإبداعية، والتدرّب على قراءة الأدب دون وساطات نقدية· من هذا المنظور، ارتبط النقد الأدبي بالهامشية، على اعتبار أنه خطاب لاحق، ثانوي، عديم الهوية، لا وظيفة له إلاّ إصدار الأحكام على الأعمال الإبداعية، فيقوم بالتشويش على القراء، لأنه يتحوّل إلى نوع من الحائل الكثيف بين القارئ والأدب والناقد، من هذا المنظور، شخص يتذوق الفن والأدب، لكنه تنقصه الموهبة التي تُمكّنه من الخلق والإبداع، ومن جهة أخرى، وهي الحجة الأخرى المغرضة ضد النقد، يصعب أيضا حشره في خانة العلم، فبين اللاأدبية واللاعلمية ضاع النقد في كون هيولي· وللأسف، ما زال هذا التراث من الأحكام القاسية تتحكم في المؤسسة الثقافية، على الرغم من بعض الفترات حيث ظهر وعي ثقافي جديد حاول الرفع من شأن النقد الأدبي، ولابد أن نذكر المنظور البنيوي الذي تحدّث عن الكتابة النقدية كنوع من الكتابة الإبداعية، فأُنصف النقد والنقاد، بل وجُعل الخطاب النقدي موضوعا للنقد والتأويل مع ظهور خطاب (نقد النقد)· انحصار النقد أم غياب الوعي النقدي؟ في نظري لا يمكن قراءة دلالة هذا التهميش الذي طال النقد بالنظر إلى المكانة التي يتبوؤها الأدب بهذه السطحية، صحيح أنّ النقد الأدبي يأتي بعد الأدب (حتى لا أثير الإشكالية العدمية من الأسبق الدجاجة أم البيضة) وهي العلاقة التي عرّفها الناقد الجزائري (حسين خمري) في كتابه الأخير (سرديات النقد) بأنها علاقة (تبعية) أي (التلازم في الحضور والغياب، فلا يوجد نص نقدي كُتب في الفراغ دون أن يعتمد على نص أدبي ينتمي إلى منظومة ثقافية) كما لا يوجد نص أدبي يحظى بحضور ثقافي في غياب النقد· لكن في اعتقادي يعود الأمر إلى الانحصار المؤذي للوعي النقدي ليس في الفضاء الثقافي فقط بل أيضا في المجالات الحيوية السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والدينية·· فالثقافة المعاصرة اتجهت نحو تكريس منظومة فكرية معادية للتفكير النقدي، خدمة للسياسات التي تحتكرها المؤسسات السياسية الكبرى وحتى الاقتصادية ذات الطابع الاحتكاري· وفي هذا السياق، فإن استمرار هذه السياسات مرهون بقمع الوعي النقدي، ومن أشكاله مثلا حشر الطبقة المثقفة في تخصصات ضيقة جعلتهم أي المثقفين يتماهون فيها بشكل أبعدهم عن معرفة ما الذي يحدث في الواقع من سياسات ظالمة وقاهرة لا تنتج إلا الدمار للبشرية· إن الوعي النقدي الذي تحدث عنه إدوارد سعيد في الكثير من أعماله النقدية المهمة هو الذي يمنح للمثقف القدرة على التأمّل في السياسات التي تنتج الواقع المعاصر والتي تخدم مصالح الدول الكبرى· وإذا أخذنا المسألة من هذه الزاوية ذهبنا إلى أنّ إشكالية النقد الأدبي هي فقط إشكالية هامشية بالنظر إلى هذا المنحى الخطير الذي بلغته الثقافة المعاصرة بإنتاجها لآليات تدجين العقول، وتدريبها على الولاء والخضوع· هنا، فإنّ تهميش النقد يعني شل إرادة الكلمة على مواجهة السلطة بالحقيقة، فلا يمكن له أن يعيش تحت أقبية المعابد الخانقة· إن النقد، إذن، يمثّل الذاكرة الثقافية للمجتمع، ولولاه لما سمعنا بوجود عنترة العبسي، أو المتنبي، أو شكسبير ودانتي···إلخ والمجتمع الذي يحاول الاستغناء عنه فهو يُسيء للفنون وللآداب، بل يكون سببا في فقدان الذاكرة الثقافية، وفي ضمور الفعل الثقافي، وتحويله إلى مجرد صدى للسائد، وتتحوّل النصوص الثقافية إلى مجرد تعاويذ لاستحضار أرواح الموتى وفق طقوس مملاة مسبقا· النقد ببساطة هي روح بروميثيوس، وإن كان البعض يريده أن يكون سيزيفيا· صوت النقد·· صمت الفن سأعود إلى تحليل (فراي) الذي أجد فيه الكثير من النباهة والدقة في الوقت ذاته، وهو يتحدث عن ضرورة النقد، يقول ''لكن هناك سببا آخر يجعل وجود النقد ضروريا، وهو أن النقد قادر على الكلام بينما الفنون كلها خرساء''· فمن هذه الزاوية، فإن تهميش النقد يعني إبقاء الفنون والآداب في حالة الخرس والصمت· النقد هو الذي يجعل الأدب والفن يتكلمان، هو الذي يجعل الأدب ممكنا، لأنه يُخرجه من دائرة الصمت إلى دائرة الصوت بما هو إحقاق للوجود الثقافي للأدب· لما يتكلم الناقد فهذا يعني أن النص الأدبي يتكلم أيضا، وفي حالة الرواية، كيف يمكن للشخصيات أن تتعلم القدرة على الكلام وإنتاج الدلالة لولا تدخلات الناقد؟ هنا، لا ضير أن نقول بنوع من الثقة إن النقد الأدبي هو أيضا صوت إبداعي، طالما أن الكتابة عن الأدب لا تقل إبداعية عن كتابة الأدب ذاته· ألا يتحدث النقاد عن فن التأويل؟ صحيح أن النص النقدي ليس قصيدة ولا حتى رواية، وإن كانت بعض الخطابات النقدية المعاصرة تحمل الكثير من السردية مثل كتاب ''مدارات حزينة'' لكلود ليفي ستراوس، لكن ما يصدق هنا يصدق أيضا لما نقول إن النقد ليس تابعا مباشرا للأدب، فهو لا يعلمنا كيف نكتب قصيدة، أو كيف نكون روائيين، أو مسرحيين بل يعلمنا كيف نستمتع بفك صورة فنية، أو كيف نربط بين أحداث الرواية ونكشف ألغازها ونقرأ ما خلف تلك المشاهد من أشياء قد تتقاطع مع تجاربنا الحياتية الخاصة، وهي ملكة لا يملكها الجميع، فكما لا نكوّن بالضرورة أدباء في أقسام الأدب، فليس كل من يدرس النقد الأدبي يصير ناقدا·