النقد حالة فاعلة تواكب الحراك الأدبي وهي حالة تأتي تاليا، أي بعد حالة الإبداع، لأن الكتابة الإبداعية هي السباقة في التواجد والحضور ومن ثم تأتي الكتابة النقدية لتقيم وتستشرف المنجز الأدبي في كل فنونه وصنوفه من الشعر والرواية والقصة وتضيء عليه بما أمكنها من أدوات إجرائية وجمالية ورؤيوية، وللنقد دوره المهم والضروري والمفصلي في المتن الأدبي، لكن حالة الإبداع والنقد متصدعة في الأغلب والعلاقة بينهما ليست على ما يرام في أكثر الأحوال والحالات، فهي متوترة ومهتزة ومربكة وشائكة بشكها واشكالاتها وفي الأحايين الأقل مقبولة ومعقولة ومنهجية بعض الشيء، وتبقى الأسئلة مشتغلة ومشتعلة بينهما في وسط لا يستقر على توافقات وترافقات وتآلفات قوية ومهنية وجمالية تخدم المنجز الأدبي عموما، مما يجعل التوتر هو الرابط والسائد والمتوارث بينهما أكثر، وهذه التصادمات المتواترة بينهما تجعلنا نتساءل ونسأل في هذا الملف عن هذه الحالة المشتبكة المربكة. فكيف هي يا ترى العلاقة بين النقد والإبداع؟، وهل يواكب النقد العربي الإبداع العربي خصوصا الجديد؟، وهل مهمة النقد هي الإحتفاء بالنصوص وكيل المديح أم مهمته هي تعرية مواطن الضعف والقوة في النصوص؟، لماذا يحتفل النقد بتجارب ويغض الطرف عن أخرى؟، ما هي مهمة الناقد العربي الآن؟. هذه أسئلة متعددة ومتقدة بهم الإبداع والنقد معا نقترب من بعض إجاباتها ومقارباتها مع بعض الكتاب والنقاد العرب الذين تشاركوا معنا هذا الملف. استطلاع/ نوّارة لحرش صباح زوين/ شاعرة وناقدة لبنانية مهمة النقد توعية القارئ والكاتب معاً سؤال جيد جداً لأنه يضع النقاط على الحروف بل يضع الأصبع على الجرح. لا، طبعاً لا، ومنذ أمد طويل، كفت الصحافة النقدية عندنا عن تأدية واجبها النقدي، لتنصرف إلى الزلمتية (من إستلزام لذوي النفوذ والقدرة)، وإلى الزعبرة والكذب والخداع حتى بات النقد مادة لا يقرأها أحد ولا يبالي بها لا المثقف الملتزم في الحدث والعمل الثقافيين، ولا حتى القارىء الساذج والعادي. لم تعد مراجعات الكتب في صحفنا تلقى أي إنتباه ولا أي مصداقية، وهذه علامة فارقة في حياتنا الثقافية. وأكثر من الكذب، تشتغل عندنا المقالات "النقدية –الثقافية" على مبدأ النكاية والكيدية، حيث يسود الغيظ كلما حاول أحدٌ أن يشير إلى ركاكة كتابٍ ما وإلى عيوبه، فيهرع من يهرع، كل واحد من ناحيته، لكن على إيقاع واحد موحد كأنهم في سيمفونية الحقد والحماقة، يتسارعون ويتبارون من سيسبق في سباق الطعن الخبيث ليدافعوا كذباً عن الركاكة ويسكتوا عما هو غير الركاكة في الفكر والإبداع وكل ما يتعلق بالكتابة. يتجاهلون النقد الحقيقي أو حقا يجهلونه، لأنهم من ناحية لا يرتاحون سوى إلى كذبهم وسطحيتهم، ومن ناحية أخرى يفتقرون إلى الثقافة النقدية الرصينة. في أي حال، الهروب من الشفافية ومن النقد الأصيل لا يصنع ثقافة، إنما كذباً متراكما يؤذي أكثر ما يؤذي، العمل الإبداعي قبل كل شيء، قبل المبدع ذاته. لكن يبدو أنهم غير مبالين. مهمة النقد ليست الإحتفاء والمديح، خصوصاً عندما يكونان في غير مكانهما. النقد يضع الصواب مكان الصواب ويدل على الخطأ من دون تردد. لكن هذا النوع من النقد غائب عندنا. نحن لا نتمتع سوى بحفنة صحافيين من نوع التجار والباعة الذين يشترون ويبيعون مقالاتهم في سوق التراضي وغض النظر والمنفعية والكيدية. النقد غائب عندنا وأعني به النقد الأدبي. نحن عندنا فقط "نقد" صحافي. والصحافة لا تفي بما يتطلبه النقد الصحيح. لذا باتت العلاقة بين النقد والنص الإبداعي علاقة نافرة وكاذبة وغير محقة إطلاقاً. الصحافيون، وخصوصاً الشبان منهم، لا يفقهون لا القراءة ولا النقد، أي تشريح النص. يستلبون أفكاراً من هنا وهناك قرأوها في مقالات متفرقة لسواهم ويلبسونها للكتاب الذي يراجعونه كيفما اتفق. كل شيء جائز عندهم. النقد الحقيقي مهمته توعية القارى والكاتب معاً. إزاء النقد الصحيح، يصبح القارىء قادراً على التوجه نحو الأدب – الأدب، الأدب الإبداعي. وبدوره يصبح الكاتب مع النقد الصحيح، في الميزان الثقافي الحقيقي. فإما أن يقال له أنت ركيك هنا وضعيف هناك ومن الأفضل أن تعيد النظر في ما صنعتَ، وإما أن يقال له (أيضاً في حال كان النقد رصينا والكاتب مبدعاً)، أن يقال له إنه يستحق الإنتباه. والقراءة، وتدخل هنا عملية الدراسة الرصينة لنصه من كل جوانبه، أو حتى من بعض جوانبه فحسب، عندما نكون إزاء مقال صحفي وليس أكاديمي. لكن كل هذا مفقود عندنا من رأس الهرم إلى كعبه. فوضى عارمة وما يبقى لنا سوى الصبر أو غض النظر إلى حين، أو الإشارة إلى التجاوز بين الفترة والأخرى. يوسف وغليسي/ ناقد جزائري العلاقة بين الناقد والمبدع تعاني من هزات وزعزعات عميقة علاقة النقد بالإبداع هي علاقة علم (أو فن) بموضوع، علاقة تابع بمتبوع، منه ينطلق وعليه يتأسّس وإليه يؤوب. لكن هذه العلاقة الوجودية القديمة بين الناقد والمبدع تعرّضت على مرّ العصور إلى هزّات عميقة تسبّبت في زعزعة هوية الناقد نفسه، بخلاف صورة المبدع ربما الذي هو الأصل والمبتدأ. فأين هو الناقد الذي كانت تُضربُ له القبّة في سوق عكاظ، ليحتكم الشعراء إليه؟، وأين هو الناقد الذي كان مسؤولا في موقفه ولو كلّفه ذلك التضحية الجسيمة (كما فعلت أمّ جُندب التي طلّقها زوجها امرؤ القيس لأنّها فضّلت شعر علقمة على شعره!)؟، وأين هو الناقد المهيب الذي كان ممكنا أن يقود مبدعا ما إلى المستشفى بفعل صدمة حكمه النقدي (كما فعل طه حسين مع إبراهيم ناجي)؟. إلى وقت قريب، وفي كلاسيكيات النقد الحديث، كان الإبداع نخالة في (غربال) ميخائيل نعيمة، ومشويات على (سفود) الرافعي، وجنايات في محكمة زكي مبارك (الذي كان يسمّى الملاكم الأدبي!)، وأحجاما في (ميزان) محمد مندور. لكنّ الناقد الذي كان يحمل (عصا لمن عصى) ويركب جَمَلا مرعبا يجوب به "ميدان التحرير" الإبداعي، ويرعب الشباب المبدع الثائر، سرعان ما عصفت به هذه الثورة العارمة التي أعادت ذلك الناقد إلى حجمه الحقيقي، تماما كما حدث في (أمّ الدنيا)، مع فارق بسيط في حالة الساحة النقدية التي عمّتها الفوضى، وجعلت الناس يحنّون إلى أسفار العهد النقدي المعياري القديم، لأنّ الدستور الوصفي الحديث لم يحقّق لهم الحياة الأدبية الكريمة، فقد تراكم الإبداع وتكدّس، وتعفّنت نصوصه، واختلط حابل الشعر بنابل النثر، واستوى الغثّ والسمين، وأصبحنا مرّة أخرى ندعو بتعجيل ظهور الناقد المنتظر (على وزن المهدي المنتظر) الذي يملأ الساحة الأدبية عدلا بعدما ملئت ظلما وجورا على يد ميليشيات ثقافية انتسبت إلى الإبداع ظلما وعدوانا!. وأخيرا، عن أيّ مواكبة نقدية نتحدّث ونحن في الجزائر مثلا لا نعلم شيئا حتّى عن عناوين مئات الكتب التي تصدر تحت راية (يهدى ولا يباع)، وهي في الأصل لا تهدى ولا تباع!. د- وجدان الصائغ/ ناقدة عراقية وأستاذة السياسة والإقتصاد في العالم العربي قسم الدراسات الشرق أوسطية بجامعة ميتشغان – آن اربر مهمة الناقد رصد الحياة أيضا والحركة النقدية لم تواكب حركة الإبداع مهمة الناقد ليست فقط في مواكبة الإبداع ورصد تقنياته بل وأيضا رصد الحياة وما يحصل على الأرض شأنه شأن النص الإبداعي. بمعنى أن النقد لم يكن أبدا عمليات حسابية تقيس جودة النصوص أو رداءتها. فهذا ليس من واجب النقد وليس من حق الناقد أن يتحول إلى معلم يمسك مسطرة بيد وباليد الأخرى قلما أحمر ليضع علامات لهذا العمل الإبداعي أو ذاك. بمعنى آخر ليس من حق الناقد أن يمارس دكتاتورية فكرية تصادر حق القارىء في مشاركته الحكم النقدي. نحن الآن في عصر النهضة الفكرية عصر الثورات الشعبية العربية وأقصد ثورة تونس ومصر وأحسب أن هذه الثورات ستلقي بظلالها على حركتنا النقدية النائمة بالعسل لتواكب بصوتها صوت الإبداع الغض. الذي بحت حنجرته وهو يرى الدكتاتوريات التي تعيث في أرضنا العربية فسادا ومن جهة أخرى يرى النقد في ضفته البعيدة وقد ألقى بتاجه ورمى بصولجانه ليغط في نوم عميق. نعم إن الحركة النقدية لم تواكب على مدى عقود حركة الإبداع التي فجرت الشارع العربي. فلازلت أذكر قصائد الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم والشاعر المصري إسماعيل عقاب والشاعرة المصرية إيمان بكري والقاصة عفاف السيد والقاص سمير الفيل والروائي ناصر عراق والروائي المصري سعد القرش ومقالاته الجريئة التي هزت عروش الدكتاتورية قبل سقوطها. ونصوص الشاعر التونسي نزار شقرون التي حيرتني وأنا أحاول أن أكتب مقدمة لديوانه الأخير "هواء منع الحمل". وهذا حصل قبل ثورة الياسمين بشهور عديدة. وقفت حائرة. فنزار يريد أن يصدر الكتاب في تونس. وأعرف ما هي الأوضاع في تونس. كنت أقرأ وأفكر كيف يمكن لشاعر فرد أن يصارع سلطة غاشمة بهذه الجرأة، كنت خائفة عليه. فحاولت أن أخفف من غلواء النصوص بالوقوف عند النصوص التي لا تقدح، لأترك القارىء يتجول في فراديس قصائده بنفسه. فأنا عربية وأعرف طقوس الديكتاتوريات العربية. وكتبت المقدمة وصدر الديوان واحتفى به المشهد الثقافي العربي والتونسي بما يليق به. وشاهد الحديث أن الإبداع العربي يشكل إنعطافة مهمة في تاريخ الإبداع العالمي ولكن النقد العربي وللأسف بقي عاجزا عن مواكبته ليس خللا في نقادنا بل في مؤسساتنا الإعلامية التي لم تأخذ على محمل الجد الورش النقدية التي تمنح الناقد وقتا لمعاينة النصوص. ربما لأنها لا زالت تلف في ملفات السياسية وليكون الإبداع من وجهة نظرها أمرا تكميليا. وأيضا في منابرنا الإعلامية وأقصد المجلات العربية التي سيطرت عليها الشللية والعلاقات الشخصية فلا يصل إليها الناقد الشاب لأنها تبحث عن الأصنام الثقافية النقدية التي لا تلبث أن تعيد وتصقل بشكل مكرور بأفكارها المستهلكة وأيضا ثالثة قنواتنا الإعلامية التي لا تلبث أن تتنتج برامج بمذيعين جهلة ومعدين يجهلون الثقافة ومعانيها السامية فمقدم البرنامج التلفازي أو الإذاعي يكرر أسئلة بلهاء لضيوف ينتقيهم على مزاجه ويضعون له أسئلة سطحية لا تمثل الحركة النقدية ولا الإبداعية. وبين كل تلك الخيبات كيف للنقد أن يصحو. دعيه يا عزيزتي نوارة يغط في نومه ويحلم بمحمد البوعزيزي جديد أو حتى وائل غنيم يوقد جمر الثورة في كل شيء حتى النقد محمد معتصم/ ناقد أدبي من المغرب مهمة النقد اليوم تجديد آليات اشتغاله للإجابة على التحولات الظاهرة في الواقع والكتابة العلاقة بين النقد والإبداع وطيدة وضرورية، لأن الإبداع يعبر عن الطريقة الشخصية التي يستقبل بها المبدع الواقع وأحداثه وينقلها عبر وسائط متعددة مثل اللغة، بالنسبة للكاتبات والكتاب، بغاية خلق الإحساس بالجمال لدى المتلقين، ولأن النقد وجهة نظر شخصية كذلك حول طريقة التعبير عن الواقع وأحداثه، وآليات وتقنيات خلق الجمال والإحساس به وتأثيره في المتلقين، ومدى إنسجام أو تنافر الوسيلة (الوسائط) والنتيجة. النقد ملازم للإبداع، لذلك كنت أرفض وما أزال كل دعوة تقوم بتسفيه عمل الناقد أو تلك التي تقوم بالإستخفاف بالإبداع. فهما وجهان لعملة واحدة كما يقال، وتلك العملة هي الثقافة التي تحتفظ في ثناياها بالصفات الخاصة لكل شعب أو أمة. والنقد الأدبي ينهض منذ نشأته الأولى حتى الآن بمهام محددة في الشرح والتفسير وتقديم أحكام قيمة حول الأعمال الإبداعية والتعقيب والتعليق عليها، وهو كذلك عملية تحليل وتفكيك وتركيب لمكونات العمل الإبداعي، وهذه المهام تفرض عليه الإنتقاء لا المتابعة، خاصة في العصر الحالي الذي يشهد غزارة في الإبداع (الكتابة) وسهولة في النشر والتواصل عبر الوسائط الجديدة (الأنترنيت)، حيث أثر ذلك في مفهوم الإبداع، وفي وظائفه، ولم يعد حتى النقد الصحافي قادرا على متابعة كل ما يصدر من كتب وكل ما ينشر على شبكة الإنترنيت. وإذا كان المبدع يعتمد على مخيلته، وعلى إحساسه الشخصي في خلوته وعزلته، فإن الناقد الأدبي يعتمد على المنهاج وعلى المفاهيم والمصطلحات وهي كلها عقلية ومنطقية، لذلك فعملية النقد عملية تفكيك وتحليل وتفكير وتأمل وجمع للمعطيات معرفية وتاريخية وواقعية، أي أنه محكوم بمرجعيات متعددة تقود وجهة نظره التي تتحول من وجهة نظر شخصية إنتقائية في البداية إلى وجهة نظر كلية وشاملة تعبر عن موقف جمعي، أو عن وجهة نظر مدرسة أدبية أو نظرية في الفن. والأحكام الذاتية ذات النزوع الفردية حول الأعمال الأدبية تكون غالبا مسيئة للنقد قبل إساءتها للإبداع، وهي موجودة ولا يمكن التخلص منها مادام مجال الإبداع مشاعا ومتسعا، ومادام لكل إنسان الحق في التعبير عن أفكاره وعن مشاعره وعن خواطره، لكن النقد البناء والعلمي لا يكتفي بالوقوف على النقائص والعيوب والهنات، ولا يمدحها أو يمدح أصحابها، بل يتجاوز ذلك إلى تقويم وتصحيح العيوب، والتركيز على مواطن القوة في العمل الإبداعي، وجوانب التميز والإضافة والإثراء، لأن الإبداع لا يصدر إلا عن تأمل ومعايشة صادقين للأسئلة الحقيقية للمرحلة التاريخية التي يعيشها المبدع، ولا يصدر إلا عن مشاعر إنسانية حقة عميقة تتجاوز ما هو مرحلي وتاريخي ومحلي. مهمة النقد العربي اليوم تجديد آليات اشتغاله للإجابة على التحولات الظاهرة في الواقع والكتابة، ومن أهم الخطوات لتحقيق ذلك وعيه بأن النقد الشمولي لم يعد نافعا، وكذلك النقد الذاتوي، بل عليه الوعي بأن النقد علم له مناهجه وله غايات ووظائف، وعليه أن يسعى إلى بناء جهاز مفاهيمي خاص بنقد الإبداع المهمل في صحراء الأنترنيت. راسم المدهون/ ناقد وشاعر فلسطيني مقيم في دمشق العلاقة بين النقد والإبداع ملتبسة وشائكة هو سؤال النقد من جديد، وهو سؤال يحيلنا بإستمرار إلى رؤية العلاقة بين النص كتحقق إبداعي ناجز، وبين المثال أو بالأصح حلم النص كما نريده وكما نتطلع إليه. سأقول أيضا أن النقد هو بمعناه العام والشامل تأمُل عميق في الحياة بكل صور نشاطاتها، التأمُل الذي تقع على كاهله مهمة تصويب البوصلة والإشارة لمواطن الضعف والخلل. النقد العربي هو بكل المعاني إبن الحياة العربية، يعيش معها، ويأمل مثلها، ولكنه أيضا يعاني ما تعانيه من مظاهر وأسباب الإحباط. ومنذ بدايات ما نعتبره النهضة الأدبية العربية، ظلت العلاقة بين النقد والإبداع ملتبسة وشائكة، تعتورها مظاهر تخلف النقد عن المواكبة، وعجزه (غالبا) عن القيام بدوره الأهم: رفد حركة الإبداع بما يدفعها قدما إلى الأمام. ستبرز هنا بالذات مسألة التيه بين النقد العربي وبين النظريات والرؤى والنقدية العالمية، وستبرز معها وإلى جانبها أيضا محنة المناخات غير الصحية التي يتحرك فيها النقد، والتي تبطئ من توغُله المنشود في قلب الحياة الأدبية. هل يمكن الحديث عن النقد في معزل عن قضية الديمقراطية والحريات العامة والصحافية؟، في التجربة الواقعية نلحظ أن نهوض العرب في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أدبيا قد ترافق بنهوض بدايات حركة نقدية، راحت تتأمل وتفحص، وتحاول إضاءة الإبداعات الجديدة، وشمولها بالدراسات والقراءات القادرة على دفعها للتفاعل مع القراء. هنا سأقول أن النقد العربي نجح بدرجات متفاوتة، ولكنه لا يزال بحاجة إلى نبذ مظاهر عديدة لا تزال تحدُ من إنطلاقته، وتجعله يراوح في المكان أغلب الأحيان. نحتاج النقد اليوم وكل يوم، لنرى أين وصلنا، وما ينبغي لنا أن نفعل: هي أسئلة تذهب لرؤية حال الصحافة الأدبية، كما لتأمُل واقع المؤسسات الثقافية. هل نتحدث عن النقد من غير أن نلامس الجوائز الأدبية، وهي التي تنهض وتتأسس على النقد، الذي يأخذ دور القاضي والحكم؟، من المهم في عجالة كهذه الحديث عن دور المؤسسة التعليمية، خصوصا في الجامعات، حيث نلحظ ركود المناهج وتكلُسها، وتخلفها عن مواكبة الجديد، بل الأهم عجزها عن بث روح النقد والمساءلة، فالدراسات الجامعية في أغلبها تأتي بحوثا تجميعية أكثر منها تفكُرا إبداعيا يعيد رؤية النصوص كحالات جدلية، وهي الحالة التي حققتها البلدان المتقدمة منذ زمن طويل. في مسألة النقد تصعد للذهن أيضا أهمية مواكبة ما يجدُ في الأدب العربي، وهنا نلحظ نكوص الحركة النقدية العربية الراهنة عن معظم النتاجات الأدبية الجديدة، خصوصا تلك التي تنشر في المواقع الإلكترونية، والتي يكاد النقد العربي في معظمه لا يلحظها، ولا يعيرها إهتماما جديا. سؤال النقد هو سؤال الحياة ذاتها، ولأنه كذلك يظلُ سؤال النظر والممارسة معا. أيمن بكر/ كاتب وناقد مصري احتفاء النقد العربي بتجارب وإهمال أخرى ناتج عن ارتباك الحركة النقدية العربية أستعين هنا بفكرة لجوناثان كللر ترى أن النقد هو صيغة مستقلة من صيغ المعرفة، وهذا يعني أن النقد لا يركض خلف النص الإبداعي بغرض تقييمه أو تقويمه، وإنما يمثل الإبداع محفزا وفضاء مناسبا كي يقدم النقد تصوراته عن اللغة والأنواع الأدبية والعالم. في هذه الحالة سيكون تحقيق النقد لتصوراته عن نفسه مرتبطا بالضرورة بتقديم منهجيات جديدة ومبدعة في تحليل النصوص الأدبية. لا أدري حقا أيهما يسعى لأن يواكب الآخر؟، إنه سؤال يعيدنا لفكرة أيهما أسبق وأيهما تابع، وهو سؤال يخفي الطبيعة الجدلية بين النقد والإبداع، فكلاهما سابق وكلاهما تابع، أحسب العلاقة هي تفاعل نشط لا أولية فيه لطرف على حساب الآخر. كما أحسب أن النشاط النقدي يتصل بمستوى حركية الوعي ودرجة تنظيم هذه الحركية في ثقافة معينة، فإذا كان الحراك الثقافي العام ضعيفا ومرتبكا، لأسباب ليس كلها متصلا بالحركة الثقافية بقدر إتصاله بالحالة السياسية/الإجتماعية العامة (وهو حال الثقافة العربية عموما) سيكون النقد متخلفا بالضرورة عن كثير من مساحات الإبداع نتيجة تعويق آلياته هو نفسه وتخلفها. أظن أن إحتفاء النقد العربي بتجارب وإهمال تجارب أخرى هو ناتج طبيعي لإرتباك الحركة النقدية العربية وفرديتها، إذ يندر وجود مؤسسات أو جمعيات أو تحركات منظمة في الجامعات لتكوين تيار نقدي قوي قادر على توظيف الوعي النقدي بصورة منظمة في التعامل مع المنتج الأدبي بوصفه الفضاء الرئيس للنقد محمد تحريشي/ناقد جزائري إلغاء متبادل إن العلاقة بين النقد والإبداع علاقة تضايف وتكامل وعلاقة سابق بلاحق، وعلاقة إنسجام وتناغم وعلاقة تنافر وخصام وعلاقة إلغاء وإقصاء، ولعل هذه العلاقة متعددة الأوجه المتشابهة من جهة والمتنافرة من جهة أخرى، وتتصف هذه العلاقة في الوطن العربي عموما وفي الجزائر على وجه الخصوص بخاصية الإلغاء المتبادل، وقد تعرضت في مقال لي في مجلة كتابات معاصرة العدد32 إلى هذه المسألة تحت عنوان: الناقد المبدع إلغاء متبادل. إن العلاقة بين النقد والإبداع علاقة بين الناقد والمبدع، ولعل العلاقة التي كانت بين المتنبي وابن جني هي ما يجب أن يؤطر مثل هذا الرابط حتى أن المتنبي كان إذا ما سئل عن شيء في شعره أشار إلى ابن جني، ومنذلك بعض العلاقات التي تربط بين بعض النقاد والمبدعين في الوطن العربي. لا أعتقد أن على النقد أن يواكب الإبداع العربي الجديد الذي يسعى إلى تجاوز المألوف والمعتاد، وإذا أراد النقد أن يفعل ذلك فعليه أن يجدد أدواته الإجرائية التي هي في الأغلب الأعم تراثية في متونها الغربية، حداثية في نقلها إلى اللغة العربية لتأخر الترجمة والنقلة الحضارية، ثم إن الكثير من المبدعين يسعون إلى التجديد والتجريب، في حين أن بعض النقاد لا يستطعون الفكاك من إسر المعيارية والتقيد بالقيم، أعتقد أن النقد عليه أن يتجاوز مسألة الإحتفاء بالنصوص أو تعرية مواطن الضعف والقوة في النصوص. قد تكون القراءة الإحتفائية ضرورية في زمن، ولكن أرى أن النقد هو كل قراءة منتجة لنص جديد، إنه كتابة ثانية للنص المبدع. ولا نعدم القراءة الإنتقائية للنصوص التي قد تحكمها علاقات شخصية أو توجهات إيديولوجية أو حسابات دعائية.