البوعزيزي الذي تخلده قناة الجزيرة القطرية على أنه مخلّص تونس من نظام جثم على صدر شعبها ل 23 سنة، ليس هو البوعزيزي الذي اكتشفناه في شهادات بعض التونسيين·· فتونس تتنفس بالسياحة والفلاحة أكثر مما تتنفس بشيء آخر، وبالسياحة يأكل التونسيون خبزا بمختلف النكهات والأذواق، إلا أن ''فعلة'' البوعزيزي أضرّت كثيرا بالجهاز التنفسي التونسي وبتراجع الدخل السياحي كأهم قطاع في البلد وجعله يستنشق الهواء برئة واحدة، اندفع بعضا ممن لا يحظون بمنبر إعلامي في الجزيرة يلعنون ويسخطون على البوعزيزي بسبب قطع أرزاقهم القادمة من السياحة·· لكن رغم ذلك فتونس اليوم تنبعث من رماد الثورة·· من النار التي أشعلها ابن سيدي بوزيد المخلّد عند من أحبوه وأيضا عند من كرهوه·· رغم كل ذلك ما يبهر في تونس حتى جدرانها التي تحمل شعارات الثورة تحوّلت من كونها ذات خلفية سياسية إلى حائطيات تلتقطها عدسات كاميرات عالمية تحملها أيادٍ سياحية بدأت تعود إلى تونس من كل فج· ''قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق''.. عند بعض التونسيين الثورة التي فجرها محمد البوعزيزي سبب مباشر في قطع أرزاق كثير من التونسيين العاملين في السياحة· قبل أيام أعلن ما لا يقل عن 17 مالك مؤسسة فندقية عن الغلق.. السبب الثورة.. ودون الحديث عن عدد العائلات التي لم تعد تسترزق من هذه المؤسسات الفندقية، هناك هياكل أخرى متصلة بالسياحة لا تتنفس إلا إذا استنشقت السياحة الهواء.. فقطاع الصناعات التقليدية والصغيرة من القطاعات التي تدر على البلد ملايير الدولارات، يتقدمها قطاع النسيج. هذه القطاعات كانت تبيع منتوجاتها للسياح أكثر من بيعها لجهات أخرى. اليوم نسبة السياح قلّت، ودخلت عائلات تونسية غير محصية في صراع مع الخبزة. بطولة البوعزيزي ورواية الجزيرة مقابل تبرئة الشرطية من الصفعة ولعنة الشعب محمد البوعزيزي الذي قلّ ذكر اسمه على ألسن المسؤولين في تونس وحتى الإسلاميين، لم يعد عملة صالحة للتداول عند الكثيرين في تونس، يقول أحد العارفين بقطاع السياحة التونسي: ''لقد حرق بعد البوعزيزي العديد من الشبان أنفسهم ومنهم من فعل ذلك داخل المعتمديات، لكن لم نرهم في الجزيرة القطرية ولا سمعنا بهم في قنوات فضائية أخرى مثلما كانوا يفعلون مع البوعزيزي.. هل تدري لماذا؟ لأن الجزيرة تدعم الإسلاميين وتروّج الانتحار حرقا في ظل الحكم المؤقت للإسلاميين لا يخدم صورتهم أمام الرأي العام التونسي والعالمي، خاصة ونحن مقبلون على انتخابات قد تنقلب فيها المعطيات رأسا على عقب''، يقول محدثنا. إذا كانت الجزيرة قد صنعت من البوعزيزي الذي قتل نفسه حرقا وقال عنه شيخ العلماء، يوسف القرضاوي، إنه يدعو الله لأن يكتبه من الشهداء، تمثالا مخلّدا بتصوير قبره مزارا من قبل التونسيين، فإن رواية البعض تجرد المقبور من بطولته، وتقول إن ''البوعزيزي لم يحرق نفسه متعمدا بل بالخطأ فقط.. لقد كان يهدد ويتوعد وهو يتحدث مع الشرطية، بينما كانت النار الموقد بإحدى يديه تستقبل قطرات البنزين دون أن يكترث لذلك فلهب''. هذه الرواية التي تضرب ما راج عن الرجل في الصميم وبأن فعلته كانت مقصودة بخلفيات ثورية تتدعم بحكم قضائي صاعق، نزل في عهد ''حكم مؤقت'' للإسلاميين، إذ تمت تبرئة الشرطية التي قيل إنها صفعت البوعزيزي وإنها كانت سببا في الثورة على بوليس بن علي ونظامه.. كل هذه المعطيات في تونس، تجعل جانبا من الناس والرأي العام يشكك في البطولة التي صقلتها وساقتها أكثر من جهة في البلد عن البوعزيزي، إلى درجة أن بعضا من المؤسسات السياحية تلعن اليوم الذي ظهر فيه البوعزيزي إلى الوجود، ''كونه قطع بفعلته رزقا عن تونس وأبناء تونس بجعل السياح عبر العالم يُدبرون عن وجهتهم المفضّلة في المغرب العربي وإفريقيا''. وتقود وزارة السياحة التونسية مثلا سباقا ضد الساعة لاسترجاع 400 ألف سائح جزائري إلى السوق السياحية، وإرساء تنسيق مع وزارة الداخلية التونسية لتسهيل إجراءات الدخول في الموسم القادم، وتعمل وزارة السياحة التونسية عن طريق ديوان السياحة على مخطط عمل يدوم عامين لتقطيب الجراح السياحية في تونس التي خلفتها أحداث 14 جانفي .2011 وبلغة الأرقام، فإن السياحة تنبعث من جديد، فمداخيل القطاع إلى غاية العاشر من مارس سجلت ارتفاعا لا ينزل تحت عتبة 32 بالمائة، والأوربيون أقبلوا على البلد بنسبة ارتفعت إلى 46 بالمائة· أما السياح المغاربة، فزاد إقبالهم بنسبة 58 بالمائة. ويمثل الجزائريون من عموم الأرقام الجديدة ما نسبته 30 بالمائة من حيث الإقبال بعد ثورة التونسيين على الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وحافظت تونس على نسبة عالية من الجزائريين ضمن إجمالي عدد السياح، إذ سجلت إقبال ما لا يقل عن 700 ألف في ,2011 لكن السلطات التونسية تبحث عن استرجاع 14 بالمائة من نسبة السياح الجزائريين الذين بلغوا العام الذي سبق الثورة مليون و640 ألف، وهو ما يمثل أيضا انخفاضا في المداخيل العامة للسياحة التونسية بنسبة 14 بالمائة، حيث كان الجزائريون حسب ديوان تونس للسياحة يصرفون ما معدله 500 أورو أسبوعيا للفرد الواحد على مدار السنة· وقال فوزي باصلي، ممثل الديوان في الجزائر، إن القيمة السياحية للجزائريين في تونس تمثل 420 مليون دولار سنويا. لكن يعترف الديوان التونسي بصعوبة استرجاع ما يربو عن 400 ألف سائح جزائري ''لأن السوق السياحي الجزائري غير مؤطر، وهو مثل سوق السياحة التونسي تماما، فالجزائري يفضّل أن يحجز في يوم وصوله إلى تونس وليس قبلا، ويميل إلى الكراء في المنازل بدل الفنادق، وهذا يفوت عليه فرصة الاستفادة من خفض في الأسعار ويفوت علينا نحن التعامل معهم عبر القنوات الرسمية للوكالات'' كان قد قال مدير ديوان السياحة في لقاء مع إعلاميين جزائريين قبل أيام في تونس. وفي محاولة لتأطير السياح الجزائريين على سبيل المثال إلى تونس، قال الحبيب عمار مدير ديوان السياحة قبل أيام أيضا، إن هناك مخططا يصل مداه إلى عامين أهم ما فيه ''الشروع في إجراءات تنسيق تونسية مع الفدرالية الوطنية للوكالات السياحية في الجزائر لخلق سوق منظم وفق تكتل وكلاء يحجزون لزبائنهم الجزائريين في تونس، وجعلهم يستفيدون من تخفيضات في الفنادق ووكالات الطيران، مع الإبقاء على الأسعار التفضيلية التي يحظى بها الجزائريونوالتونسيون والليبيون على صعيد الخدمات السياحية''· وامتدادا للمخطط يعكف التوانسة على تطوير الاستثمار السياحي نقلا واستشفاء، إذ تعد تونس حاليا في المرتبة الثانية عالميا بعد فرنسا في سياحة التجميل والعلاج المائي''. حنين إلى بورقيبة·· ثورة تحمي الأرزاق ولا لبن علي حتى لو أكلنا الدهر الخبز بالماء لقد زرنا في تونس مناطق لم تلفحها نيران الثورة بالقدر الذي فلته في مناطق غيرها.. سوسة التي يقبل عليها الجزائريون بكثرة والمنستير، حيث يرقد هناك الرئيس الأسبق بورقيبة والمهدية التي تشق طريق المجد السياحي في تونس وسيدي بوسعيد، حيث كان الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي يفضل أن يسكن ليعتلي هضبة الولي الصالح ويجعله قلعة لمراقبة تقريبا نصف العاصمة تونس التي قضينا فيها يوما ونصف. كانت الرحلة إلى هذه المناطق استراتيجية من الحكومة التونسية للتعريف بالسياحة عبر الإعلام الجزائري والبرهنة على أن ما راج عن تردٍ أمني في تونس لا أساس له من الصحة.. من يلاحظ البرنامج الذي سطره الديوان التونسي للسياحة، يجد أنه ينقسم إلى زيارات موجهة وإلى أوقات حرة يستطيع الوفد أن يقارن بين الأماكن التي وجهنا إليها وبين الأماكن التي نختار أن نقبل عليها بمحض إرادتنا بعد الفراغ من الرسميات، وهي طريقة في حد ذاتها تملي عليك القناعة الواقعية بالأشياء. سوسة التي كانت محطتنا الأولى لدى نزولنا في مطار تونسقرطاج وتبعد عنه بحوالي 250 كيلومتر تقريبا من أهم البقع التونسية سياحة. كان الانتقال إليها ليلا من العاصمة اختبارا حقيقيا لديوان السياحة التونسي، إذ من هذه المحطات عادة ما يرسم الزائر أولى انطباعاته وأحاسيسه ويبني عليها ما تبقى من عطلته.. لقد كان الطريق السيّار يختلف كثيرا عن الذي نعرفه في الجزائر.. فبين تونسوسوسة تجد فضاءات للراحة ومحطات بنزين كثيرة تضمن لك الارتياح والمتعة أثناء السفر، فضلا عن مساحات تجارية تابعة لماركات عالمية خاصة الفرنسية والأمريكية. وتشعر منذ الوهلة الأولى وأنت تقرأ تلك الكتابات المشعة في ظلمة الليل بألوان ضوئية مختلفة، ينساب إلى خاطرك شعور بالغيرة، ولنقل شيء من الحسد أيضا للغات المختلفة التي كُتبت بها تلك العلامات والإشارات.. فتارة ألمانية، وتارة إنجليزية، وتارة فرنسية، ومرات ومرات بالعربية.. هذا التعدد اللغوي على اليافطات يشعرك أنك قادم من بلد ليس به سياح إلى بلد لا يتكلم بلسان واحد.. ويستمر هذا المشهد من المطار إلى سوسة التي ظننتها في البداية مدينة منتجع، لكن عند طلوع الشمس الذي أعلن لنا أول يوم في تونس، اكتشفنا أن المنطقة التي اختار لنا الديوان أن نرابط فيها، ما هي إلا منطقة من المؤسسات الفندقية والترفيهية والتجارية.. فسوسةالمدينة لا تقل أهمية بتاريخها وأصالتها وعبق ريحها المنطلق من أزقتها الزرقاوية والبيضاء، عن سوسة المنتجع التي حبكها التونسيون هندسيا وعمرانيا على الطريقة الأوربية. كانت الحافلة وهي تشق طريقها بين الأزقة والشوارع تصنع في ذهني صورا من الرهان والتحدي الذي يمكن أن ترفعه بجاية أو تلمسان أو الطارف أو القالة أو سكيكدة، لتكون ولاياتنا الجزائرية في مرتبة سوسة.. سوسة الجامع الكبير وسوسة تاريخ الأغالبة وقلعة الرباط التي كانت إحدى شرفات العسس من الهجمات الغربية في ماضي غابر. أن العمارة في سوسة وفي المنستير والمهدية عمارة منقوشة بفكر فاطمي وزيرّي موحد وكأن تاريخ هاتين الدولتين مدفون برمته هناك.. الأروع الذي يذهل العقل في تونس وربوعها هو أن الحكم التونسي البورقيبي رغم ديكتاتوريته، إلا أنه لم يخلد نفسه كما يفعل النرجسيون من الديكتاتوريين.. بل حافظ على ذاكرة تونس التاريخية ورعاها للناس أجمعين من العالم.. تونس ليست ملك للتونسيين كما رأيتها في المنستير أو في المهدية، فالقهواجي والبائع وصاحب الحمام والجزار وسواق الطاكسي كلهم يضعون لك تونس على طبق ليقدمونها لك متاعا وسعادة في فترة قضاء عطلتك.. عندما ذهبت إلى المنستير رفقة الوفد الإعلامي تساءلت لماذا يحب الناس بورقيبة في تونس.. لقد كان قبره المبني كأنه مسجد، يعج بالتونسيين أكثر من أي أقوام أخرى.. يقول فوزي بصلي مرشدنا هناك، إن التونسيين يكنّون لبورقيبة ما لا يكنونه لبن علي ويحبونه كما يحب الجزائريون بومدين.. لكن قفزت من هذه الكلمات إلى عقلي صورة غريبة وهي أن بورقيبة في حد ذاته تحوّل مرقده إلى معلم سياحي.. يزوره التوانسة ليل نهار عرفانا منهم لما قدمه لتونس وشعب تونس رغم اختلاف البعض مع نمط حكمه للبلاد.. وهو المقام الذي لم يحظ به بومدين عندنا. فمربع الشهداء في مقبرة العلية هال على عروشه من الزوار، بل قد يمنعك حراس المقبرة أحيانا من الاقتراب إلى القبور التي تحيط ببومدين أو على الأقل ستكون تحت الرقابة وأن تريد أن تختلي بنفسك مع الرئيس هواري بومدين لتكلمه على الفرق بينه وبين بورقبة في تونس.. كيف هو اليوم حال ''صاحب على كليمة ولينا في ظليمة'' وكيف هو صاحب ''الجزائر لا تزول بزوال الرجال''.. يقول توانسة المنستير إنهم قد يحنون إلى أي زمن.. إلا زمن بن علي الذين يفضّلون بدله ''كسرا وما ولا بن علي''. لقد كانت في كافة المحطات التي وطأت عليها أقدامنا في تونس، ''بركة بورقيبة'' تتبعنا على حد قول أحد التوانسة الذين يحبونه. إذا فقدان تونس مداخيل من القناطير المقنطرة من الدولارات، فإنها لم تفقد السياح، فثمة من بقي وفيا لتونس ولفنادق وشواطئ تونس، ومنتجعاتها الجميلة وقصباتها العبقة بريح التاريخ والتقاليد الضاربة في أعماقه.. لقد تحوّلت جدران وأسوار الشوارع في تونس الملطخة بالطلاء الأحمر والأسود الذي كتب شعرات الثورة ومنها ''لا إسلامية لا علمانية.. ثورتنا ثورة زوالي'' إلى جدران سياحية بامتياز تحظى بصور تلتقطها عدسات مختلف الماركات العالمية من الكاميرات، فمن ''نيكون'' إلى ''سوني'' مرورا ب ''سامسونغ'' و''باناسونيك'' التي تحملها أيادي سياح بدأوا يقدمون من كل فج عميق ليس بالقدر الذي كانوا عليه، ولكن يجيئون وهم يشككون في رواية أن الثورة قضت على خضرة تونس وسياحتها وأنها لم تعد آمنة·