''دعونا نتجه نحو النصر''، و''لقد حان الوقت لنعصف بسجن الباستيل''.. كانت هذه بعض الشعارات التي رفعها المتظاهرون في الأول من ماي في العاصمة الفرنسية باريس. وربما يعتقد غير المعتادين على العادات السياسية الفرنسية أن هناك ثورة أخرى تجري في البلاد. والحقيقة هي أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل، حيث إن زمن الثورة قد ذهب بلا عودة، حتى في فرنسا نفسها التي تعد مهد الأفكار الثورية، لكن كل ما يحدث في فرنسا هذه الأيام هو انتخابات رئاسية أخرى يتنافس عليها تياران ينتميان إلى نفس النخبة الحاكمة. ويقود نيكولا ساركوزي، الذي يمتلك طاقة جامحة ويمثل حزب الإتحاد من أجل حركة شعبية المحافظ، أحد هذين التيارين، بينما يمثل التيار الآخر المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند، وهو رمز غير بارز ويفترض أنه يمثل التقليد الثوري، وهو ما يعد أحد المتناقضات الموجودة في السياسة الفرنسية. في الماضي، كان هؤلاء الذين يتمتعون بمزايا كبيرة يشكلون الأقلية في المجتمع، وكانوا دائما ما يواجهون خطر قيام ثورة تدعمها الأغلبية المحرومة من تلك المزايا، وكان هذا هو النموذج السائد في التاريخ الفرنسي على مدار قرون عديدة. وعندما نعمت فرنسا بالديمقراطية تغير شكل التفاعل بين الأقلية المتميزة والأقلية المضطهدة، في حين بقي مضمون ذلك التفاعل على حاله من دون تغيير. وفي بعض المناسبات، مثل الانتخابات العامة لعام 1936 والتي أدت إلى الإصلاحات التي قامت بها الجبهة الشعبية، صوتت الأغلبية المحرومة من الامتيازات من أجل توزيع أكثر عدلا لها. وخلال العقود الأخيرة، أدى رفض الأغلبية، التي تخشى من ضياع امتيازاتها، للتغيير إلى تأزم الوضع، فكل مرة تقترح فيها الحكومة القيام ببعض الإصلاحات التي من شأنها أن تهدد تلك الامتيازات، مثل فترة إجازة تصل إلى 5 أسابيع، أو أسبوع عمل أقصر من المعتاد ومد سن التقاعد، يتم رفض تلك المقترحات من قبل السلطة. وفي الواقع، فإن الإنتاجية الفرنسية، التي ظلت ترتفع بصورة بنسبة واحد في المائة كل عام على مدار ثلاثة عقود متتالية، قد دخلت في حالة من الركود منذ عام ,2008 وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى 10 في المائة، وهبوط عام لمتوسط القدرة الشرائية للأسرة الفرنسية. ويخشى البعض من أن تكون تلك الأوقات السعيدة قد ولت من دون رجعة. وقد سلطت تلك المخاوف الأضواء على إثنين من الخبراء الاقتصاديين مرة أخرى، فلدينا جون مينارد كينز، وهو خبير اقتصادي بريطاني من المفترض أن تكون أفكاره قد ساعدت العالم الغربي على الخروج من الكساد العظيم في أواخر العشرينيات من القرن الماضي. وتتلخص الفكرة الأساسية لكينز في أنه يتعين على الحكومات أوقات الكساد أن تتدخل لتوفير وظائف جديدة، حتى ولو كانت تلك الوظائف، في الظروف العادية، لم يكن لها معنى من الناحية الاقتصادية. وعلى الجانب الآخر، هناك الخبير الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان الذي يبني أفكاره على سياسة نقدية سليمة والحد من الإنفاق العام. وفي تلك الانتخابات، يمثل هولاند طريقة كينز، بينما يستمد ساركوزي أفكاره من فريدمان. وتكمن المشكلة في أن كلا المرشحين يفترض وجود حرية الاختيار التي لم تعد متاحة في فرنسا، التي باتت - كونها عضوا في الإتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو - لا تستطيع تبني أي من الفلسفتين، لأنها لا تملك السيطرة على عملتها، ومقيدة بالاختيارات المحدودة التي تفرضها الضوابط الصارمة للميزانية الخاصة بمنطقة اليورو. ومن حيث التعامل مع الاقتصاد، ربما يكون ساركوزي في وضع أفضل من هولاند، لأن آراءه تتواكب مع الأفكار المسيطرة حاليا على الاتحاد الأوروبي، حيث يدور الحديث حاليا عن تقليل الدين العام والحد من عجز الميزانية. وتشير التحاليل النهائية إلى أن المرشح الذي سيفوز في الانتخابات الفرنسية يوم الأحد، سواء ساركوزي أو هولاند، لن يكون قادرا على القيام بأكثر من ركوب الموجة التي تشكلت في أماكن خارجة عن إرادته وسيطرته. وقد تؤثر انتخابات يوم الأحد على السياسات الخارجية فقط. ومع عدم إمكانية تحسين الوضع الاقتصادي، فقد يلجأ هولاند إلى إسكات أصحاب التيار اليساري الراديكالي عن طريق التلويح ببعض القرارات الخاصة بالسياسات الخارجية، وقد أشار بالفعل إلى نيته سحب القوات الفرنسية من أفغانستان قبل الموعد المتفق عليه مع أعضاء حلف الناتو بعامين، وقد يخفف أيضا من اللهجة الحادة التي يستخدمها ساركوزي للتعليق على ما يحدث في سوريا وحملته التي تبدو وكأنها شخصية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ويعتمد هولاند أيضا على إمكانية إيجاد أصدقاء جدد من بين الأنظمة الجديدة التي تلت ثورات الربيع العربي. وبمعنى آخر، تعج انتخابات يوم الأحد بالمتناقضات، حيث تختلط المذاهب الفكرية ويصبح من الصعب على الناخب الفرنسي أن يعرف من ينتخب وسبب انتخابه.