إن ارتباط الحياة في المجتمع التاريخي التراثي بالتراث من جهة، وبالحداثة من جهة، وفي ظل الانقسام إلى فئة الأصالة وفئة التحديث، وبحكم التباين في الاتجاهات حول أولوية البنية التحتية أو البنية الفوقية، فغطت فئة الحداثة أو التحديث فئة المحافظة بغير سعي إلى تجديدها، ويقوم الصراع بين التعلم الديني والتعلم العلماني، فهو تجاوز سطحي شكلي من شأنه أن يوقف التغيير ولا يحدثه، فلم يحصل انتقال المجتمع التراثي في الحاضر من التراث إلى التجديد· والحلقة المتوسطة بين التراث والعصر أو بين القديم والجديد ظهور الليبرالية والتنوير حيث تمجد الحرية ويمجد العقل واستغلال الإنسان للطبيعة وتقدم التاريخ، وأداة انتقال من التراث إلى الثورة· وداخل هذا الوضع الفكري والسياسي سيطرت الأقلية التحديثية على الأغلبية القديمة· ''وكما تمثّلت القوى المحافظة للنموذج التراثي وأخذت درعا يحميها ضد قوى التغيير الاجتماعي، فإن قوى التقدم تتمثّل النموذج اللاتراثي، ولكنها تأخذه كرمح تخرق به القوى المحافظة··· تقف قوى التقدم وهي في موقع السلطة عاجزة عن البناء، وتتصدى القوى المحافظة لحركة التغيير الاجتماعي، وهي خارج السلطة وفي مواجهتها· ويكون الحسم في النهاية إلى قوى الأغلبية الصامتة وقادتها المحافظة''· المجتمعات النامية الحديثة أصبحت بين نموذجين إثنين أو نمطين، ''النمط التراثي يضحي بالتغيير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث، وكان النمط اللاّتراثي يضحي من أجل إحداث التغير الاجتماعي، فإن تجديد التراث أو إحيائه أو إعادة بنائه طبقا لحاجات العصر هو الذي يحفظ من التراث دوافعه على التقدم ويقضي على معوقاته، وهو القادر على إحداث التغيير الاجتماعي بطريقة أرسخ وأبقى وأحفظ في التاريخ، من الانتكاسات والردّة وحركات النكوص''· ولما كان التراث مرتبطا بالدين الذي تحوّل إلى عقائد ونظريات ومذاهب، وذلك في سياق زمني مكاني تاريخي معيّن فيه صراع المصالح وتضارب بين القوى الاجتماعية· جاء التراث ليعبّر عن الصراع والتضارب، وعبّرت عن ذلك الفرق السياسية والكلامية القديمة بين تراث القهر وتراث التحرر، وظهر ذلك في تراث الحركات الإسلامية المعاصرة مثل السنوسية والثورة العرابية وحركات التمرد الوطني في المغرب العربي، ومن ثم في الثورة الإسلامية الكبرى في إيران· يؤكد حسن حنفي على ضرورة إحداث النموذج الثالث، النموذج البنائي التجديدي الإحيائي على نحو يحفظ شروط قيام هذا النموذج بعيدا عن النموذجين، النموذج التراثي والنموذج اللاتراثي· وهذه الشروط تنتقل بالإنسان وفكره وحياته عامة من وضعيات انتقال من الأدنى إلى الأعلى بتحويلها إلى وضعيات انتقال من الأعلى إلى الأدنى ومن الخلف إلى الأمام، فبدل من الإنسان إلى الله يكون الانتقال إلى من الله إلى الإنسان، ومن الأمير والرئيس والإمام إلى الجماهير والشعوب والأمة، ومن الإيمان والنظر والعقيدة إلى العمل والممارسة والثورة، ومن فناء النفس وخلودها إلى بقائها واستمرارها، ومن زوال الحياة الدنيا إلى بقاء العالم واستمراره، ومن الفرقة الناجية إلى وحدة الوطن وتماسكه والذود عنه، ومن الجبر والإكراه والقدر إلى خلق الأفعال والحرية والتحرر، ومن الإشراقية والنورانية والعقلانية والروحانية إلى العقل البرهاني، ومن منهجية النص النازل إلى منهج الاستقراء الصاعد، هذه الطريقة في التعاطي مع التراث القديم ومع العصر الحالي هي التي تضمن تجانس التراث مع الحداثة بعيدا عن تغريب النموذج اللاتراثي، وعن تعصب وتقوقع النموذج التراثي· أما صلة التراث بالعمل السياسي في المجتمعات النامية، فتقوم على صلة الحاكم بالمحكوم، والتراث سلطة في نفوس الناس والعمل السياسي تطوير للمجتمع ونقله من حال إلى حال ومن فترة تاريخية إلى أخرى، وهو ذلك الذي يشمل التغيير في كافة قطاعات المجتمع، فالتراث العلمي متمثلا في الأقسام العلمية الثلاثة النقلي والعقلي والعقلي النقلي له أثره الملموس على العمل السياسي قديما وحديثا· فالعلوم النقلية - القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، والفقه - تركت أثرا سلبيا في سلوك الناس أكثر منه إيجابيا، فعلوم القرآن مازالت تتحدث عن رسم المصحف وعدد آياته وشكله··· إلخ· والأمر نفسه في العلوم النقلية العقلية، ففي علم أصول الدين استعملت التصورات لله وللكون وللإنسان من قبل النظم السياسية التي تبنت التصور الرأسي لله وللعالم والإنسان من الأدنى إلى الأعلى مما سهل أن ''ينزلق الحاكم وراء صورة الإله المطلق فيتشبه به ويأخذ صفاته، ويستعير أفعاله فيصبح الحاكم مطلق مثل الله وأفعاله واجبة الطاعة مثل أفعال الله·· مازلنا نعرض لقضية ابن خلدون لماذا تنهار الأمم ولا تضع سؤالا تاليا كيف تتقدم الشعوب وما هي شروط النهضة؟ ما زلنا ننقل عن الغرب الرياضيات الحديثة والطبيعيات الحديثة بل والعلوم الإنسانية المعاصرة، وفي هذا الجو الحضاري العام يستحيل العمل السياسي حيث لا إبداع للجديد ولا تطوير للقديم ولا إعمال للعقل، ولا إجهاد للقريحة فنصبح في العمل السياسي أيضا ناقلين تتشبث الأنظمة القائمة بتراث القدماء وتنقل المعارضة تراث المحدثية (الماركسية أو الليبرالية أو القومية)· والقديم أرسخ جذوراً وأقوى شرعية من قشور المحدثين''· إذا كان التراث يعيق العمل السياسي والتغيّر الاجتماعي، حسب حسن حنفي، قد يتحوّل إلى دوافع تُحرك العمل السياسي وتُغير المجتمع من خلال إجابة عن سؤال: ''مدى ما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامي المعاصر في مواجهة قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته؟''· وإمكانية المساهمة تتحدد من خلال النقاط الستة التالية: تحرير الأرض من الاستعمار والغزو، فالله والأرض وحدة، والدفاع عن الحريات في مواجهة القهر والتسلط، والعدالة الاجتماعية في مواجهة سوء توزيع الثورة، والتنمية الشاملة في مواجهة التخلف الحضاري، وتأكيد الذات والهوية ضد كل أشكال الاغتراب في الآخر، والحرص على توحيد الأمة بدل التجزئة والانقسام· ويتم توظيف التراث كدوافع لتحريك الحاضر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع التراثي النامي من خلال رؤية تاريخية، ومشروع إعادة بناء التراث يقوم على حرية الفكر وحفظ مقاصد الشريعة وإصلاح الأرض لا إفسادها واستقلال المؤسسة الدينية وإبطال أشكال ومظاهر النفاق الديني في الدولة ووسائل الإعلام· يتضح مما سبق أن ما هو سلبي في التراث قد يتحوّل بفعل دور العقل والحرية وحفظ مقاصد الشرع ومبدأ صلاح الأرض لا فسادها إلى ما هو إيجابي، فمن سيادة التصور العمودي التسلطي للعالم المتمركز حول الواحد إلى التصور الأفقي والتمركز حول الإنسان والأرض والمجتمع والتنمية، ومن هنا يتحوّل التراث كطاقة نفسية واجتماعية مشحونة داخل الوجدان الفردي والوعي الاجتماعي إلى حركة نهضوية فكرية وعملية سياسية واقتصادية تحرك التاريخ وتبني الحضارة· أما بالنسبة لصلة الفلسفة بالتراث عند حسن حنفي، قد تُفهم هذه الصلة بين الفلسفة كوجود قائم حاليا وبين التراث القديم، أو بين الفلسفة القديمة والتراث القديم، أو بين الفلسفة كممارسة للتفلسف وصلتها بالتراث القديم· وأزمة الفلسفة والتراث ترتبط بثنائية الفلسفة الغربية وصاحبها الآخر أو الغرب والتراث الفلسفي القديم وصاحبه الأنا، فهناك بعد الآخر وبعد الأنا وبعد (الواو) الذي يمثّل التواصل والتفاعل والحراك الثنائي من خلال دور العقل، وهو بعد غير موجود تماما راحت ضحيته ظروف العصر التي افتقدت المنظور المتوازن بين عمق التراث القديم ولا عمق الفلسفة الغربية والمعاصرة، وافتقدت الوعي المتوازن بين تراث مفهوم الهوية هي الأنا والفلسفة الغربية والمعاصرة وهي أقل وضوحا في التعبير عن الهوية، ومظاهر أزمة الفلسفة والتراث كثيرة· فالتعامل مع التراث القديم تتم بنقل علومه كلها من غير تطوير أو اختيار من حيث وضعها في مستوى واحد، ونقل أقصى ما يمكن من العلم والتعرّض لكافة فروع العلم، وتتكرر العلوم القديمة بغير محاولة لإعادة بنائها مثل تكرار القسمة الثلاثية لموضوع الفلسفة القديمة، المنطق والإلهيات والطبيعيات· ولا يتم الربط بين العلم والسياق التاريخي الذي نشأ فيه والواقع الذي أفرزه، الأمر الذي جعل الأزمة قائمة وصار التراث القديم لا يتفاعل بإيجابية مع الوافد ولا مع الواقع· ولضمان هذه الميزة ميزة التفاعل الإيجابي بين التراث الفلسفي القديم والفلسفة الغريبة الحديثة المعاصرة ضرورة إعادة قراءة التراث القديم وإعادة بنائه، والوصول إلى فلسفة جديدة· ''وإنها لمسؤولية جيلنا أن يبدع فلسفة إسلامية جديدة طبقا لظروف عصرنا بعقلية المجتهد، فيصبح الفيلسوف في الوقت نفسه أمينا على الحكمة واعياً لمصالح الأمة··· لا توجد فلسفة إسلامية واحدة ودائمة لكل العصور بل توجد فلسفات متعددة ومتغيرة بتغير العصور· الفلسفة تعبير عن روح العصر''· إن صلة التراث بالمجتمع والسياسة في العالم العربي والإسلامي المعاصر، وهو عالم تراثي تاريخي تضع الحياة أمام ثنائية تتعدد أوجهها، التراث والحداثة، التراث والواقع، التراث والسياسة، التراث والسلطة، التراث والفلسفة الغربية، وهي ثنائيات تعبّر عن أزمة التراث في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر· هذه الأزمة أسبابها ودوافعها كثيرة بعضها داخلي ذاتي خاص بطبيعة التركيبة الفكرية والثقافية والاجتماعية للمجتمع العربي الإسلامي المعاصر وبعضها الآخر موضوعي يتعلق بالظروف التاريخية التي تحيط بهذا المجتمع سياسية واقتصادية وحضارية بشكل عام، والسبيل إلى تجاوز الأزمة هو إعادة بناء التراث القديم من جهة، وإعادة قراءة الوافد من جهة ثانية، وإيجاد نظرية صحيحة في تفسير الواقع يتضح من خلالها الموقف الحضاري من الواقع، هذا الموقف الذي يُمثّل عتبة ننطلق منها نحو الأمام في سبيل إنقاذ الأمة من محنتها· مازال التراث يؤثر في حياتنا اليومية ويمثل قضية أثارت جدالات ونقاشات حادّة في أوساط المثقفين والمفكرين مع بداية التفكير في النهضة وفي مشروعها، ومنذ طُرح سؤال الحداثة لأجل تحديد أسباب التقدم وشروطه، وهي نقاشات طرحت جملة من الأسئلة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، مثل قضية التراث ومعناه والحرية والعقلانية والتعامل مع الآخر· والتراث في مشروع حسن حنفي يمثل المستوى الأول، إلى جانب التجديد وهو المستوى الثاني· ولإزالة اللّبس والغموض يُحدد صاحب المشروع مفهوم التراث ومفهوم التجديد في مشروعه، حيث بدأ كتابه ''التراث والتجديد'' : ''ماذا يعني - التراث والتجديد؟''، كمشروع حضاري قومي· فالتراث عنده ''كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذن قضية موروث وفي الوقت نفسه قضية معطى حاضر على عديد من المستويات''· المسألة ليست تجديد التراث ما دام التراث نقطة الانطلاق من خلال الوعي الكامل بالمسؤولية القومية والثقافية، ومادامت الأصالة تؤسس للمعاصرة والغاية تتحقق بالوسيلة والجديد يأتي بعد القديم· فالتراث ليس مطلوباً في ذاته بل هو وسيلة لتفسير الواقع وتطويره فهو ''نظرية للعمل وموجه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض وهما حجرا العثرة اللّتان تتحطم عليها كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية·· فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه· ''التراث والتجديد'' إذن يحاول تأسيس قضايا التغيير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط قبل المؤسس والمشروط''· التراث ليس هو مجرد مخزون مادي ولا مجرد كيان صوري نظري قائم بذاته، فالتراث هنا بمستويين مادي وصوري، وهو في حقيقته مخزون لدى الجماهير· فما زال التراث محددا لسلوك الناس في الحياة اليومية، محاطا بالمدح والتقديس أحيانا وبالانغماس فيه هربا من الواقع الصعب أحيانا أخرى، هذا في وقت انطلق فيه الغير علميا وحضاريا من الواقع ونقد التراث بل وهدمه وتعويضه بما هو أفضل وأريح· وإذا تناولنا موروثاتنا النفسية نجد أننا مازلنا نحيا على فلسفة الكندي وعلى أصول الدين المعتزلية والأشعرية وعلى التصوف الداعي إلى الفقر والجوع والصبر والتوكل وعلى إعطاء الأولوية للكلي النظري على الكلي العملي· ''فالتراث والتجديد'' انطلاقاً من معنى التراث يدل على ''موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في الوقت نفسه وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر إسقاطا من الماضي أو رؤية للحاضر، فتحليل التراث هو في الوقت نفسه تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في الوقت نفسه تحليل للتراث·· فالتراث والتجديد يؤسسان معا علما جديدا، وهو وصف الحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف الماضي على أنه حاضر معاش··· يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ وهو حاجة ملحّة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر·'' ويكشف المشروع عن ظاهرة البحث عن الذات والأنا، لأن التخلف قد يكون صادرا عن غياب النظرة العلمية الحضارية القديمة، كما أن الفقر قد يكون من تصدير النظم الاقتصادية والسياسية البالية· والبحث عن الهوية بوجود الآخر كفيل به منهج ''التراث والتجديد'' الذي ينقلها من حال التلقي والنقلية إلى صرح النقد والإبداع· فالتراث في المشروع ليس هو معتقدات مقدسة مغلقة ولا هو بناء صوري شكلي ولا هو مجرد مخطوطات ومنشورات ومؤلفات أو دوائر معارف، فهو ليس بالتراث الصوري الفارغ الذي لا أثر له، ولا هو مجرد أشياء مادية محفوظة· فالتراث ''هو المخزون النفسي عند الجماهير، هو تمركز الماضي في الحاضر، يتحوّل إلى سلطة في مقابل سلطة العقل أو الطبيعة تمد الإنسان بتصوراته للعالم وبقيّمه في السلوك ويظهر التراث كقيمة في المجتمعات النامية وهي المجتمعات التراثية التي ما زالت ترى في ماضيها العريق أحد مقومات وجودها وفي جذورها التاريخية شرط تنميتها وازدهارها''·