لزمت أسس الحضارة الإسلامية قادة المسلمين، وقضاتهم، وحكامهم بمراعاة العدل في المعاملة بين المسلمين، دون تمييز بين عناصرهم ، وفئاتهم، وقومياتهم ، وطبقاتهم، فالمسلمون كلهم سواء أمام الحق، وبين يدي القضاء، وإيجاد فرص العمل المتكافئة للجميع، وفي اقتباس العلم والمعرفة، فالتفاضل الذي تدعو إليه الحياة يقوم على التمايز بين الأفراد بخصائصهم الفردية الفطرية والمكتسبة.35 وشواهد مراعاة العدل بين الناس في نصوص الشريعة الإسلامية كثيرة جدا، لنأت منها بالكليات الكبرى: 01 - العدل في مجال حق الحياة: لقد قرر الإسلام أن نفس المسلم مكافئة لنفس المسلم في حق الحياة، مهما كانت الفوارق الشخصية، قال تعالى: ''وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا''. وقال النبي: ''لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة''، فهل في الحضارات الإنسانية الراقية سمو مثل هذا السمو الذي يقرر الإسلام، وعدل مثل هذا العدل الذي يهدف إلى صيانة حياة الناس! هذه هي الحضارة الإسلامية، بينما نجد في حضارات أخرى تفخر برقيها المادي المدهش، تميزات عنصرية منتنة، تهدر فيها حياة الأبرياء، ولا جريمة لهم إلا ألوانهم السوداء، أو أنهم من أعراق أخرى، أو من أحزاب ومذاهب مخالفة. 02 -العدل في مجال الحكم: لقد قرر الإسلام وجوب العمل بالعدل في الحكم، والقضاء، وفي أداء الشهادات دون تمييز أو محاباة، قال تعالى: ''إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا'' (النساء الآية:58). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب، فقال: أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها''. 03 -العدل في المعاملات الأدبية: في مجال تبادل المسلمين مظاهر الإخاء الإيماني، والبعد عن كل مظهر من مظاهر تعالي بعضهم على بعض يأمر الله تعالى أن يكرم المسلم أخاه المسلم، فيرد تحيته بأحسن منها، أو بمثلها مهما كانت الفوارق بينهما، وينهى عن السخرية، واللمز والتنابز بالألقاب، قال تعالى: ''وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا'' (النساء الآية:86) وقال تعالى: ''يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ'' (الحجرات:11). وقال رسول الله: ''المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة''، وقال رسول الله: ''لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا''. وبهذا نلاحظ مبلغ الرقي العظيم الذي تتصف به أسس الحضارة الإسلامية في بنائها الفكري الجيد. صفتا القوة والأمانة للحاكم المسلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ''يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين لا قيام إلا بها''. وإذا كان واجبا من واجبات الدين فهو شعيرة من شعائر الإيمان التي كلفت بها الجماعة، وعلى ذلك كان دور الإمام وأعوانه في صيانة المجتمع المسلم من الأفكار المنحرفة وسائر الفساد أثرا من آثار الإيمان. وقد دل على وجوب تنصيب الإمام نصوص من الكتاب والسنة والإجماع، منها: قول الله تعالى: ''يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ'' وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ''... ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية ''، وقال صلى الله عليه وسلم: ''لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم''. يقول الله عزوجل: ''إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين'' (سورة القصص). هذه الآية الكريمة جاءت ضمن قصة موسى عليه السلام مع صاحب مدين في سورة القصص ، والذي كان عاجزاً عن طلب الماء، فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما تأخرتا انتظارا لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءة موسى وشهامته حملته على أن يبادر من غير أن ينتظر سؤالهما بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما، فأعجب هذا الفعل الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما وهي العالمة بعجز والدها عن القيام بمهام الرجال : ''يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ'' (القصص: 62)، فقولها: ''إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ'' تعليل لطلبها، فالقوة في العمل، والأمانة في أدائه على الوجه المطلوب. وهذا التنصيص على هذين الوصفين هو من وفور عقل هذه المرأة التي رأت اكتمال هاتين الصفتين في موسى عليه السلام، وهو دليل على أن هذا من المطالب التي يتفق عليها عقلاء البشر في كل أمة من الأمم، وشريعة من الشرائع. وقد أخذ العلماء رحمهم الله هذه الآية مأخذ القاعدة فيمن يلي أمرا من الأمور، وأن الأحق به هو من توفرت فيه هاتان الصفتان، وكلما كانت المهمة والمسؤولية أعظم، كان التشدد في تحقق هاتين الصفتين أكثر وأكبر، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى: ''إن خير من استأجرت القوي الأمين''...، والقوة في كل ولاية بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر..، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام. والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حَكم على الناس في قوله تعالى:''فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ'' (المائدة الآية: 44)... إلى أن قال: اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللّهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررا فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزو مع القوي الفاجر.