عادت السعفة الذهبية للدورة الخامسة والستين من مهرجان كان السينمائي إلى النمساوي مايكل هانيكه، عن فيلمه ''حب''· بينما نال الجائزة الكبرى الإيطالي ماثيو غاروني، عن فيلمه ''واقع''· وأحرز المكسيكي كارلوس ريغاداس، جائزة أفضل إخراج عن فيلمه ''أضواء ما بعد الظلمات''· وافتك رمز السينما اليسارية الأوروبية كين لوتش، جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمه ''نصيب الملائكة''، وأهدى الحائزة إلى شعوب دول جنوب أوروبا التي تعاني من وطأة سياسات التقشف الليبرالية· وكانت الآراء متباينة في تقييم هذه الدورة· فعلى الورق، كانت تبدو واعدة على أكثر من صعيد، حيث هناك كوكبة لامعة من كبار صناع الفن السابع المشاركين داخل وخارج المسابقة، بأعمال اتسمت مضامينها بالكثير من الثراء والتنوع، وبرزت تيمات إشكالية عدة، كان متوقعا أن تفجر جدالات مثيرة· لكن الرتابة خيمت على المهرجان، ولم يعثر جمهور الكروازيت على فيلم ينتزع الإجماع، ليكون سعفة ذهبية بلا منازع· وإذا كانت أعمال سينمائيين، أمثال والتر ساليس ''على الطريق'' أو ديفيد كروننبرغ ''كوسموبوليس'' قد خيبت الآمال، فإن أعمال بقية ''الكبار'' جاءت متقاربة· فمن رائعة جاك أوديار الجديدة ''عن الصدأ والعظام''، إلى تحفة عباس كياروستامي المينيمالية ''مثل عاشق''، مرورا ب''حب'' مايكل هانيكه، و''لم تروا شيئا بعد'' لألان رينييه'' و''نصيب الملائكة'' لكين لوتش، و''ما وراء الهضاب'' لكريستيان مونجيو، كان بإمكان الجوائز الرئيسية لهذه الدورة أن تتوزع بأكثر من طريقة دون أن يثير ذلك جدلا أو اعتراضا· لم يقتصر الأمر على تقارب المستويات الفنية، وذلك أمر غير مفاجئ بالنظر إلى الأسماء المرموقة التي تنازعت السباق نحو السعفة الذهبية· بل كان ملفتا أيضا تقارب التيمات والمضامين التي تطرقت إليها غالبية الأفلام المشاركة· وفي مقدمتها تيمة الحب المستحيل، التي كانت بمثابة البصمة المميزة ل ''كان''· وكأن لعنة المصير التراجيدي للنجمة مارلين مونرو، التي أختيرت إيقونة لأفيش هذه الدورة، ألقت بظلالها على مصائر شخوص الأفلام المشاركة· إختار عباس كياروستامي (المنسي الأكبر في جوائز هذا العام)، ومايكل هانيكه (الحائز على السعفة الذهبية)، منحى تفكيكيا ولغة مكثفة تقارب التشكيل لسبر أغوار علاقات حب إشكالية بين أستاذ جامعي عجوز وطالبة فقيرة مضطرة إلى ممارسة الدعارة لتمويل دراستها ''مثل عاشق''، وبين زوجين عجوزين تباعد بينهما أعراض المرض والشيخوخة، بعد عشرة عمر كامل ''حب''· بينما تناول جاك أوديار (الذي أبعد هو الآخر من الجوائز) وكريستيان مونجيو (الحائز على جائزة أفضل سيناريو) التيمة ذاتها في قالب إنساني مؤثر· الأول صور معاناة عاشقين تفصل بينهما الإعاقة الجسدية (ماريون كوتيار في أحد إجمال أدوارها منذ la môme)، بينما تناول الثاني حرقة عاشقتين مثاليتين تمزقهما عقدة الذنب الدينية التي تلقي بظلالها الثقيلة على علاقتهما المحرمة(تقاسمت الممثلتان كريستينا فلوتور وكوسمينا ستراتان، جائزة أفضل ممثلة عن دور العاشقين)· وشكلت المرافعة ضد شطط العولمة الليبرالية ثاني أبرز تيمة في أفلام هذه الدورة· في ''كوسموبوليس''، قدم ديفيد كروننبرغ، إقتباسا (اتسم للأسف بالحرفية) لرواية دون ديلليلو، التي تحمل العنوان ذاته، والتي تروي يوما في حياة رجل أعمال ثري (بطل سلسلة Twilight روبرت باتنسون) يستقل سيارته الليموزين الفخمة في نيويورك للذهاب عند الحلاق، لكنه يعلق في أزمة سير خانقة، بسبب تفجر الأزمة المالية العالمية التي عصفت بوول سترتيت، في صيف ,2008 قبل أن تمتد إلى بقية دول العالم· وإذا بالنظام الرأسمالي العالمي بأكمله يختنق في ''عجقة'' الأزمات· التيمة ذاتها تناولها الكازاخي داريجان أوميرباييف، في فيلم Student، الذي عرض في تظاهرة ''نظرة ما''، وشكل إحدى أجمل مفاجآت المهرجان، بالرغم من أنه خرج بخفي حنين من سباق الجوائز· استعار أوميرباييف، رائعة دستويفسكي ''الجريمة والعقاب''، ليسلط الضوء على الإنحرافات الإجرامية لليبيرالية المتوحشة التي أحكمت قبضتها على المجتمعات القوقازية الخارجة من أتون الحكم السوفياتي· أما النماسوي أولريتش سيدل، فقد جاءت مرافعته ضد مظالم العولمة من خلال ظاهرة السياحة الجنسية التي تقود نساء أوروبيات مسنات، سيمنات وميسورات إلى البحث عن الملذات في أحضان شبان سود في الدول الإفريقية الفقيرة· بينما إختار ''اليساري الأشهر في السينما المعاصرة''، كين لوتش، قصة شلة من الشبان المدانين بتهمة ارتكاب جنح صغيرة، والذين يحكم عليهم بساعات مطولة من الأشغال ذات المنعة العامة، والذين يجدون ملاذا من بؤس الحياة الاجتماعية التي يتخبطون فيها في ممارسة هواية ارتياد نوادي تذوق الويسكي الإيرلندي· وشكلت أفلام السفر تيمة ثالثة في أعمال هذه الدورة· فإلى جانب ليموزين كروننبرغ العالقة في عجقة نيويورك، هناك ليموزين مماثلة يتنقل على متنها بطل Holy Motors لليوس كاراكس، الذي يتقفى طيلة ليلة كاملة آثار شخصية غامضة تدعى موسيو أوسكار· بالطبع، شكل السفر التيمة المركزية لفيلم والتر ساليس ''على الطريق''، المقتبس من رواية جاك كيرواك الشهيرة، التي سبق أن حاول سينمائيون كثر إقتباسها، خلال ثلث القرن الماضي، من بينهم فرانسيس فورد كوبولا· لذا كان فيلم ساليس مرتقبا بفضول من قبل جمهور الكروازيت، لكنه جاء رتيبا وبطيئا ومرتبك الإيقاع· ولم يكن ''على الطريق''، الفيلم الوحيد المقتبس من عمل أدبي في هذه الدورة· فمن بين 22 عملا في المسابقة الرسمية كان هناك 8 أفلام مستوحاة من أعمال روائية، ومن أبرزها ''اقتلوهم برفق'' لأندرو دومينيك (عن رواية ''الفن والأسلوب'' لجورج فهيغينز)، و''رجال بلا قانون'' لجورج هيلكوت (عن رواية ''من أجل بضع جرعات من الكحول'' لمات بوندورانت)· دون أن ننسى بالطبع فيلم ألان رينيه، ''لم تروا شيئا بعد''، المقتبس عن مسرحية Eurydice لجان أنوي· عرب كان ال65: جائزة يتيمة وجدالها متعددة! بالرغم من الهجمات التخوينية التي تعرض لها في الإعلام الرسمي الجزائري، حصل فيلم ''التائب'' لمرزاق علواش، على جائزة ''أوروبا سينما''، وهي إحدى الجوائز الأربع الرئيسية في تظاهرة ''نصف شهر المخرجين''· ويبدو أن الفيلم المصري ''ما بعد الموقعة'' ليسري نصر الله، يواجه حملة مكارثية مماثلة· لم يشفع لصاحب ''سرقات صيفية'' قبول فيلمه في مصاف الكبار، وانتخابه لدخول المسابقة الرسمية· والغريب أن الحفاوة النقدية التي استقبل بها الفيلم على الكوازيت لم تزد منتقديه سوى حدة وعدائية· فقدت حجج التعجل والإرتجال التي وجهها بعض ''النقاد'' العرب إلى الفيلم، في بداية المهرجان، مصداقيتها بعد أن أشادت الصحافة الدولية المتخصصة بالرؤيا الإخراجية المبهرة التي استطاع يسري نصر الله، من خلالها أن يزاوج بين الدراما والتوثيق· وإذا بمنتقدي الفيلم يشهرون تهمة جديدة مفادها أن الفيلم من تمويل منتج صهيوني· وغاب عمن روجوا هذه الإشاعة أن المنتج المشار إليه، جورج مارك بن حمو، شخصية يسارية مرموقة· فهو كان مستشارا خاصا للرئيس ميتران، وأدار في الثمانينيات مجلة ''غلوب'' المقربة من الحزب الإشتراكي الفرنسي، ثم أسبوعية ٌصىلِّمي ِّل َُّمٍمَجًّج اليسارية المرموقة· وبالرغم من كونه يهوديا فرنسيا من أصل جزائري، إلا أنه لم تعرف عنه أي ميول أو مواقف صهيونية·