دخل مهرجان ''كان'' ال 65 أسبوعه الثاني، لتبدأ معركة التكهنات التي تحتدم تقليديا عند منتصف السباق نحو السعفة الذهبية .ولعل أهم ما ميز أفلام الأسبوع الأول من هذه الدورة، هيمنة أمريكية لافتة، ألقت بظلالها على الكروازيت، سواء على صعيد البساط الأحمر، أو في عروض البرنامج الرسمي .فبعد فيلم الافتتاح ''مملكة طلوع القمر'' لفيس اندرسون، ترجم الإنزال الهوليوودي القوي في تشكيلة هذه الدورة بفيلم ثان هو ''رجال بلا قانون'' للأسترالي جان هيلكوت، الذي تتقاسم بطولته كوكبة من نجوم الجيل الجديد في هوليوود (شيا لابوف، توم هاردي، جيسيكا شاستين، جيزون كلارك...) .في هذا العمل، يوجه السينمائي الأسترالي المشاكس، الذي أبهر الكروازيت عام 2009 بفيلمه ''الطريق''، تحية إلى أفلام الويسترن الستينية (المدرسة الإيطالية) من خلال قصة تدور في الريف الأمريكية، خلال فترة حظر الكحول في الثلاثينيات .وغير بعيد عن مدرسة الويسترن الإيطالية، احتفى المهرجان، ضمن برنامج ''كلاسيكيات كان''، بالسينمائي الكبير سيرجيو ليوني (1992 - 1998)، من خلال عرض خاصة لنسخة مرممة رقميا من رائعته ''حدث ذات مرة في أمريكا''، التي كانت قد عرضت على الكروازيت (خارج المسابقة) سنة .1948 وقدم العرض الخاص، أول أمس، بحضور النجم روبيرت دونيرو الذي تقمّص في الفيلم شخصية زعيم المافيا ''نوديلز''، مما منح هوليوود موقع الصدارة على البساط الأحمر، بعد أن كان النجوم المشاركون في فيلم الافتتاح ''مملكة طلوع القمر'' (بروس ويليس، وبيل موري، وإدوار نورتون، وفرانسيس ماك دورمان) قد استقطبوا الأضواء في الساعات الأولى من عمر هذه الدورة. وقبل أن يودع المهرجان أسبوعه الأول، منح النجم المشاكس شين بن، للسينما الأمريكية ثالث تألق لها على البساط الأحمر .وعاد بن الذي ترأس لجنة التحكيم قبل أربع سنوات، عاد إلى الكروازيت لتقديم شريطه التوثيقي ''حملة هايتي'' عن المساعي التي يقوم بها من أجل جمع المساعدات الخيرية لهايتي .وتوالى هذا الحضور الأمريكي القوي، أمس الثلاثاء، من خلال عرض فيلم ''اقتلوهم برفق'' لأندرو دومينيك، حيث كان بطله براد بيت ورفيقة دربه انجلينا جولي في مقدمة النجوم الذي صعدوا سلالم قصر المهرجان المكسوة بالبساط الأحمر، خلال السهرة السابعة من هذه الدورة . إلى جانب هذا الإنزال الهوليوودي، اتسمت عروض الأسبوع الأول من هذه الدورة بهيمنة شبه كاملة السينمائيين المكرسين، الذين اعتاد جمهور الكروازيت على حضورهم في التشكيلة الرسمية .وفي مقدمة هؤلاء الفرنسي جاك أوديار، والروماني كريستيان مونجيو، والإيطالي ماثيو غاروني. أوديار، الذي أبهر الكروازيت قبل ثلاثة أعوام برائعته ''نبي''، عاد هذه السنة بفيلم إنساني مؤثر بعنوان ''عن الصدأ والعظام'' يروي حب إشكالية بين مهاجر عربي فقير يدعى ''علي'' (ماتياس شونيرتس) وحسناء فرنسية اسمها ''ستيفاني'' (ماريون كوتيار) يتعرفان على بعضهما في ملهى ليلي، ووثوق العلاقة بينهما بالرغم من تعرّض ستيفاني إلى حادث أفقدها رجليها .وحظي الفيلم بفضول إعلامي كبير لتشابه قصته مع فيلم الموسم في فرنسا بلا منازع intouchables، لكن أوديار استطاع أن يراوغ جمهوره، كالعادة، حيث جاء فيلمه أبعد ما يكون عن الميلودراما الإنسانية .فمن خلال هذه القصة استعادت تيمته الأثيرة ''على شفتي'' (2001) و''عن النبض توقف قلبي'' (2005)، راصدا كيف تسهم الإعاقة -جسدية كانت أم نفسية أو اجتماعية -في تشابه وانصهار مصائر شخصية تبدو في البداية متنافرة تماما . أما كريستيان مونجيو، الذي يدين له ''كان'' بواحدة من الروائع الأكثر تأثيرا في جمهور الكروازيت (4 أشهر، 3 أسابيع ويومين -السعفة الذهبية - 2007)، فجاء هذه السنة بجديده ''ما وراء الهضاب''، الذي يروي قصة ''ألينا'' التي تقع في حب صديقتها ''فواتشيتا''، ويدفعها الإحساس بالذنب إلى الإلحاق بالكنيسة لعلها تجد في عزلة الأديرة عزاء عن عذابها النفسي بسبب هذا الحب المثلي الذي يتنافى مع معتقداتها الدينية .لكن تمزقها النفسي يؤدي بها إلى حالات صرع غامضة تنتهي لوفاتها وسط لامبالاة القائمين على الدير، الذين يعتقدون أن روحا شيطانية قد تقمصتها. من جهته، عاد الإيطالي ماثيو غاروني إلى الكروازيت بعد أربعة أعوام من ''غومورا''، الذي نال الجائزة الكبرى (''كان'' - 2008) وأدى إلى الحكم بالإعدام على المخرج (وعلى مؤلف الرواية التي اقتبس منها الفيلم، روبيرتو سافيانو) من قبل شبكات المافيا في نابولي .في جديده ''واقع'' يعود غاروني إلى مسقط رأسه رغم التهديدات لتصوير كوميديا اجتماعية يوجه من خلالها تحية إلى سينما الستينيات الواقعية الإيطالية، عبر شخصية فاقعة، هي لوتشيانو، بائع السمك الذي يحلم بأن يصبح نجما كوميديا .لكنه لا يجد جمهورا لنكاته وأكاذيبه المحببة سوى زبائن متجره وعائلته الكبيرة... أما المفاجآت السارة القليلة، خلال عروض هذا الأسبوع الأول، فقد جاءت من تظاهرة ''نظرة ما''، من خلال عملين أبهرا الجمهور والنقاد .الأول يحمل توقيع المخرج الكازاخستاني داريجان أوميرباييف، وهو اقتباس عصري لرواية ''الجريمة والعقاب'' لدستيوفسكي، والثاني هو باكورة المخرج براندون كروننبرغ (نجل السينمائي الكبير ديفيد كروننبرغ) بعنوانantiviral . غرف المخرج الكندي الشاب من عوالم والده القلقة المشوقة بالصخب والعنف، لكنه استطاع أن يبرهن رؤية إخراجية مغايرة . قصة الفيلم من نوع الخيال المستقبلية، تتناول ظاهرة ولع الناس النتوايد بالنجوم والمشاهير، بوصفهم ''آلهة عصرية لعصر بلا دين''، حيث يصل الأمر ببعض المختبرات الصدلانية إلى حد إطلاق حملات لتشجيع الناس على أن يحقنوا أنفسهم بفيروسات سبق أن أصابت نجومهم المفضّلين .المنحى العنيف والدموي لأجواء الفيلم تذكر بأعمال كروننبرغ الأب، لكن الابن استطاع أن ينتزع عواصف من التصفيق بفعل الأسلوب المينيمالي والرؤيا الإخراجية المحكمة التي تجعل بعض المشاهد تظاهي البيرفورمانس التشميلي في باكورته هذه التي تعد الأكثر استقطابا للأضواء من بين الأعمال التي تنافس على الكاميرا الذهبية (الحائزة الي تكافئ الأعمال الأولى لمخرجيها في مختلف فعاليات المهرجان) خلال عروض الأسبوع الأول من هذه الدورة .