إن عصر العولمة هو عصر التقنية بصفة عامة وعصر تقنية الإعلام والاتصال بصفة خاصة، والتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي عرفه ويعرفه عالمنا المعاصر لا يسلم من كونه أداة تُستغل لممارسة الظلم والاستبداد والقهر وكل أنواع الاستغلال في جميع مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية عامة· أصبحت في هذا الجو الصورة الإعلامية أكثر وقعا على المشاهد من غيرها، لما تضعه من تعدد في البدائل للاختيار، ولما تسمح به من تقليص المسافات الزمنية والمكانية بين سكان المعمورة، فالعالم بات قرية صغيرة ومؤسسة تديرها الأمركة وتقدم صورتها العولمة الإعلامية، لكن الصورة الإعلامية المنقولة إلينا بأي وسيلة كانت، فإنها تترك فجوات وآثار على حياتنا، هذه الفجوات والآثار مرتبطة بالمرسل والمرسل إليه، ففجوة الصورة ''التي تظهر على الشاشة والصورة التي يتلقاها المشاهدون في مقامات مختلفة، كما يقول امبرتوإيكو، فالرسالة التلفازية رسالة هدفها تحقيق إغلاق إيديولوجي يتعلق بمقصدية المرسل الذي يسعى إلى أن نرى العالم من خلال أعين السلطة وعندما يطلب ذلك، فإن المطلوب منا أن نؤمن دون جدال بأننا نرى الواقع الموضوعي الذي يماثل الحقيقة الرسمية للسلطة... فالفضاء الصوري التلفازي فضاء استبدال يعمل على استبدال صورنا الشخصية عن العالم والمتولدة داخليا بالصورة المتجسدة لنا بواسطة وسائل الصور المتحركة، فحين تشاهد التلفاز تكون جميع قدراتك العقلية لتكوين الصورة ساكنة هاجعة مغمورة بالصورة التلفازية على نحو مؤثر بينك وبين الصورة الشخصية، يستبدل نفسه، أي يحل محل غيره، حسبما يشير جيري ماندر. وتزداد خطورة ذلك دعائيا في أن فضاءات الصور التي تختزن في ذاكرة المتلقي لأحداث في أماكن لم يشاهدها ولن يصلها منقاة من الصور التلفازية، وبالتالي فإن سلوكه أو مواقفه اللاحقة مبنية إيديولوجيا على خزينة من هذه الفضاءات الصورية''. ولما كانت الشركات الإعلامية العالمية متعددة الجنسيات تشرف على التسويق والاتجار بالصور التلفازية، تكون الصور بالضرورة موظفة في الأداء والمردود والتأثير حسب التوجهات الإيديولوجية وسائر انتماءات أصحاب الشركات متعددة الجنسيات، فشبكة CNN الأمريكية على سبيل المثال لا الحصر، حسب خطابها الإيديولوجي، تعمل على أمركة العالم، ولا تقدم إلا ما يخدم مصالح الأمركة المتصهينة، مثل تعتيمها الإعلامي في نقل أحداث حرب الخليج الأولى والثانية، ومثل التعتيم الإعلامي عما يجري في حرب أفغانستان، ولا تنقل من صور الأحداث والوقائع إلا ما يروق للأمريكيين قادة وغيرهم، كما تنقل كل الصور عن العمليات الفدائية التي ينفذها المقاومون في فلسطين وفي العراق وفي غيره، ولا تنقل البتة صور الجرائم التي يرتكبها الصهاينة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، التي ارتكبها ويرتكبها هؤلاء في غزة وفي العراق، وفي حق المدنيين العزل، وفي حق النساء والأطفال والشيوخ، وقد نجد من الباحثين في العالم العربي من يشيد بدور شبكة CNN وبثقة الناس بها، فهذا صاحب كتاب ''الإعلام الدولي والعولمة الجديدة'' يقول: ''لقد تميزت CNN باختراقها للبث الإذاعي والتلفزيوني العالمي بسرعة إلى درجة أنها حصلت على ثقة العالم وكانت هي الشبكة الوحيدة المعتمدة في تغطية أخبار حروب الخليج سواء من أمريكا وحلفائها أو من القادة العراقيين، وكانت لها نشاطات واسعة في الصين وغطت أحداثا هامة هناك مما حذا بالحكومة الصينية في طلب وقف نقلها لأخبار الصين، وذلك عندما قامت شبكة CNN بتغطية أحداث الميدان في الصين على الهواء مما أثار حفيظة الحكومة الصينية''. والحقيقة أن الاختراق الإعلامي العالمي للشبكة لا يعود البتة إلى موضوعيتها أو حرفيتها العالية، بل إلى احتكارها لتقنية الإعلام والاتصال المتطورة على الأرض وفي الفضاء، وبالتالي احتكارها لنقل الصورة الإعلامية، ولم تحظ مطلقا بثقة العالم بل حظيت بثقة خُمس العالم الذي يعيش في العالم المتقدم وينعم بأكثر من 08 بالمائة من الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي· أما باقي شعوب العالم، فلم تلق منها ومازالت سوى التعتيم الإعلامي ونشر إيديولوجيا الغرب الأمريكي والترويج لسياسة العولمة ومساندة سياسة الحلف الأطلسي والجيش الأمريكي الذي يزداد قهره للشعوب يوما بعد يوم. ومن جانب آخر، فإنه منذ ابتكار الوسائل والأجهزة السمعية البصرية وتطورها وازدهارها إلى اليوم والمعركة تدور رحاها بين الفكر والعقل والنخبة من جهة، وبين الصورة والصوت والجماهير من جهة ثانية، وإذا كانت ''ثقافة الصورة هي ثقافة الجمهور أو العمود الفقري للثقافة الجماهيرية، كما أنها ثقافة الوجدان والانفعال والغرائز. ومبدئيا نقول إن ثقافة الكلمة هي امتداد للاستدلال العقلي، وإن ثقافة الصورة امتداد للإدراك البصري... الصورة هي الغاية والمنتهى، هي البديل عن العالة أو القائم مقام العالم العيني، بل إن الصورة توهمنا بأنها هي الواقع العيني، هذا العالم بخدعة خادع، هو الذي ينتقل إلينا في بيوتنا... ولا تكتفي الصورة بأن توحي لنا بأنها هي الواقع الحق... بل إنها على المستوى المعرفي تخدعنا عندما توحي لنا بأنها هي العلم عينه والمعرفة عينها والثقافة ذاتها... أما الكلمة فهي تنتمي وجوديا ومعرفيا إلى نظام آخر. الكلمة على العموم أداة ووسيلة أو رمز دال، وهذا الدال عند تآلفه مع مجموعة دوال أخرى يطلق في ذهننا آلية التفكير: أي آلة مقارنة وحكم واستخلاص، ولنقل آلية تأويل... يكون وقع الصورة أقوى من وقع الكلمات''. تراجعت ثقافة الكلمة وتنامت وتعاظمت ثقافة الصورة المسموعة والمرئية، وأقبلت المؤسسات الإعلامية الأمريكية والغربية على فرض الثقافة الليبرالية والنموذج الثقافي والاقتصادي والسياسي الأمريكي على العالم، باستخدام آلية الصورة السمعية البصرية، والحرص على نشر ثقافة الاستهلاك الواسع لما هو ثقافي ولما هو مادي، ومن وراء ذلك تمرير نمط العيش الأمريكي ونقله إلى كافة شعوب العالم، على أنه النمط الوحيد الذي يلبي كافة حاجات ومطالب الإنسان. كان لجانب الدعاية والإشهار الأثر البارز في التعريف بالعولمة وبمظاهرها وأبعادها وآثارها وتداعياتها المختلفة السلبية والإيجابية، والتعريف بالشعوب وبثقافاتها وبتراثها وتاريخها وأفكارها وأنماط عيشها، والتعريف بجغرافيا العالم وبأفلاكه وما في ذلك من تنوع واتساع، والتعريف بالتطور الحاصل وباستمرار في جميع مجالات الحياة، كل هذا يصدر عن تقنية الإعلام والاتصال التي هي بحوزة المركز ينتجها ويديرها حسب مصالحه وتطلعاته، وحسب توجه العولمة لديه دون اعتبار مصالح وحاجات الأطراف، والمظهر الإعلامي الاتصالي يصب في تعميم تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وتعميم الأنماط الثقافية للمركز عن طريق وسائل الإعلام وبواسطة ووسائط وأدوات الاتصال، من خلال المظاهر السابقة الفكرية والسياسية والاقتصادية··· وغيرها، خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وغياب بديل حقيقي عملي عن الفكر الليبرالي، أما المظهر العسكري فلا وجود لوضع مختلف عما هو عليه· أما المظهر الإعلامي، فالأمر فيه يختلف وصعب، لأن التوحيد ممكن على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، بينما التنوع الثقافي والتعدد الفكري مستمر غير قابل للتوحيد، فلكل مجتمع تراثه يوجهه وثقافته تحكمه وتحدد سلوكه، ولا تسمح له بالانخراط في فضاء ثقافي آخر والاندماج والذوبان فيه كليا ووفقا لما يجري في الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية، لأن الكثير من شعوب العالم التي تعرضت ومازالت تتعرض لمحاولات الاختراق الثقافي، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل وزادت تلك الشعوب تمسكا وارتباطا بانتماءاتها الثقافية والتاريخية والحضارية.