محمد خوان يتحادث مع رئيس الوفد الإيراني    هذه توجيهات الرئيس للحكومة الجديدة    النفقان الأرضيان يوضعان حيز الخدمة    رواد الأعمال الشباب محور يوم دراسي    توقيع 5 مذكرات تفاهم في مجال التكوين والبناء    الصحراء الغربية والريف آخر مستعمرتين في إفريقيا    مشاهد مرعبة من قلب جحيم غزّة    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس    على فرنسا الاعتراف بجرائمها منذ 1830    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    الخضر أبطال إفريقيا    ضرورة التعريف بالقضية الصحراوية والمرافعة عن الحقوق المشروعة    300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغيّر المناخ    فلسطينيو شمال القطاع يكافحون من أجل البقاء    بوريل يدعو من بيروت لوقف فوري للإطلاق النار    "طوفان الأقصى" ساق الاحتلال إلى المحاكم الدولية    وكالة جديدة للقرض الشعبي الجزائري بوهران    الجزائر أول قوة اقتصادية في إفريقيا نهاية 2030    مازة يسجل سادس أهدافه مع هيرتا برلين    وداع تاريخي للراحل رشيد مخلوفي في سانت إيتيان    المنتخب الوطني العسكري يتوَّج بالذهب    كرة القدم/كان-2024 للسيدات (الجزائر): "القرعة كانت مناسبة"    الكاياك/الكانوي والبارا-كانوي - البطولة العربية 2024: تتويج الجزائر باللقب العربي    مجلس الأمة يشارك في الجمعية البرلمانية لحلف الناتو    المهرجان الثقافي الدولي للكتاب والأدب والشعر بورقلة: إبراز دور الوسائط الرقمية في تطوير أدب الطفل    ندوات لتقييم التحول الرقمي في قطاع التربية    الرياضة جزء أساسي في علاج المرض    دورات تكوينية للاستفادة من تمويل "نازدا"    هلاك شخص ومصابان في حادثي مرور    باكستان والجزائر تتألقان    تشكيليّو "جمعية الفنون الجميلة" أوّل الضيوف    قافلة الذاكرة تحطّ بولاية البليدة    على درب الحياة بالحلو والمرّ    سقوط طفل من الطابق الرابع لعمارة    شرطة القرارة تحسّس    رئيس الجمهورية يوقع على قانون المالية لسنة 2025    يرى بأن المنتخب الوطني بحاجة لأصحاب الخبرة : بيتكوفيتش يحدد مصير حاج موسى وبوعناني مع "الخضر".. !    غرس 70 شجرة رمزياً في العاصمة    تمتد إلى غاية 25 ديسمبر.. تسجيلات امتحاني شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا تنطلق هذا الثلاثاء    مشروع القانون الجديد للسوق المالي قيد الدراسة    اختتام الطبعة ال14 للمهرجان الدولي للمنمنمات وفن الزخرفة : تتويج الفائزين وتكريم لجنة التحكيم وضيفة الشرف    صليحة نعيجة تعرض ديوانها الشعري أنوريكسيا    حوادث المرور: وفاة 2894 شخصا عبر الوطن خلال التسعة اشهر الاولى من 2024    تركيب كواشف الغاز بولايتي ورقلة وتوقرت    تبسة: افتتاح الطبعة الثالثة من الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير "سيني تيفاست"    "ترقية حقوق المرأة الريفية" محور يوم دراسي    القرض الشعبي الجزائري يفتتح وكالة جديدة له بوادي تليلات (وهران)        مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: بوليفيا تدعو إلى الالتزام بقرار المحكمة الجنائية    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



14 سنة تمر على اغتيال ''تشي غيفارا'' القبائل.. كفوا عن قتل الشعراء أيها الحمقى!
نشر في الجزائر نيوز يوم 24 - 06 - 2012

يحزّ في نفسي ألا يعرفك الجميع، ليس ذنبهم أنهم لم يسمعوا أشعارك وليس ذنبك أنك رحلت قبل الوقت، لكن رغم ذلك وكما قُلتها دائما الشعراء لا يموتون، وفعلا صدقت، فشعرك يحيى أكثر من الحياة نفسها، حتى يخيّل للسامع أن الحياة بنفسها تتنفس منها وتستنجد بحروفك حتى تعطيها طعما ولونا.
غضبك وثورتك تنتقل إلينا رغما عنّا، ونحن لا نملك سوى أن نطيع حروفك حبا وعشقا ونبادلك الوفاء حتى لو أنك في القبر كما هو مفترض.
حملت قضيتك عاليا ومُتّ من أجلها، عفوا تعيش دائما لأجلها، تألمت فآلمتنا معك، بكيت وبكتنا غربتك ولوعتك وحزنك ونفذ الحرف من بين شفتيك مثلما ينفذ السهم إلى القلب، أشعلتنا فاشتعلنا بنار ودون نار وأصبحت مع أشعارك ترافقنا مثل الخبز والماء، صدقت فأصدقناك القول والفعل وصرنا لشعرك أوفياء.
قرأت شعرا كثيرا، وأحببت شعراء كثر، وجعلتهم يعيشون بين أوراقي وأقلامي وخبأتهم في قلبي حتى لا تضيع حروفهم وصرخاتهم، وتجدني أضعك أيضا في قلبي شعلة لا أريدها أن تنطفئ، وأريد أن أسمع صوتك من لايسمع ومن لم يسمع.
نبوّة الشعر لا يمكن أن تسرق من أحد إذا أثبت شعره ذلك، وعاشت حروفه بعده وبقي حيا في قلوب الناس يداوي الجراح ويصبّر العاشق ويعزي الفقيد وأنت شاعر عشقت الطبيعة وجعلتها تطيعك وتطيع شعرك الذي جاء معطاءً، صادقا، دفاقا، رهيبا، قويا، شفافا مثل الطبيعة تماما، وجاء شامخا مثل جبال جرجرة التي أنجبتك، وسخيا مثل أرض الأمازيغ الحرة الأبية.
الشعر لا يمكن أن يعيش إلا إذا كان يجمع بين النار والماء، بين اللوعة والفراق، بين الغربة والوطن وهكذا كُنت وكان شعرك، تستنطق القلب فيخفق بين الضلوع ويصبح عصفورا يرغب في الهروب من القفص وفعلا في آخر القافية يهرب.
حملت القضية الأمازيغية في قلبك وغذاها الملك يوغورطا بنبله وشجاعته ضد الرومان وحلمت دائما أن تكون ثائرا مثله كان شعرك سلاحك.
هذا السلاح الذي لا يعرفه الذين قتلوك برصاصهم ظنا منهم أن الرصاص يقتل ولم يعرفوا أنهم حينما فعلوا ذلك منحوك عمرا أطول.. كم هم حمقى، كيف يتصورون أن يموت الشاعر بالرصاص؟
الشاعر لا يموت إلا حينما يجافيه الحرف ويخاصمه القلم ويعجز عن كتابة ما يسكن القلب، لذلك كفوا عن قتل الشعراء أيها الأغبياء، لأن الحروف لا تعرف مقبرة غير القلب وما يدخل القلب لا يموت أبدا.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الحكاية كلّها تبدأ من منطقة ''توريرت موسى''، هذه القرية القبائلية المفعمة بروح الطبيعة وسحرها والتي لم تكن تعرف أنها ستحتضن شاعرا سيذكره الزمن إلى الأبد، فأنجبت ذات يوم من شهر جانفي 1956 طفلا مشاكسا، متمردا، ثائرا، مولعا بصيد الزرزور والجري وراء ''البوفرطوطو'' في الغابات الخضراء.
طفولة الصعلكة
لم يمنعه حرمانه من غياب الأب المهاجر مثل معظم أطفال القرية أن يكبر وسط حنية والدته ''نانا علجية'' التي عوضته عن ذلك بحبها وعطفها وكفاحها حتى تُربي ابنها الوناس وابنتها مليكة في ظروف عادية.
لم يكن الوناس الطفل هادئا ولا مسالما، فقبل أن يتم سنواته الست كاد أن يحرق القرية بأكملها حينما أشعل كوخا بعقب سيجارة، فاستنفر قوات الدرك الفرنسي التي ظنت أنها عملية خاصة بالمقاومة في القرية.
شدّه صوت العصافير وصوت الماء واسترق السمع للأهازيج القبائلية التي تدندن بها والدته حينما تعدّ الكسكسي أو عندما تجني الزيتون في الحقول مع النسوة ولفته الحزن الساكن بحنجرتها التي تبكي غياب الزوج المهاجر، هذا كله كوّن بداخله شحنة غريبة ما لبثت أن تحولت إلى انفجار.
الوناس لم يملك في طفولته لعبة حقيقية فما كان منه سوى أن صنع أول فيثارة له ''بعلبة الزيت القصديرية'' وكانت أوتارها خيوط الصنارة فعزفت أنامله عليها بمهارة وأطلق العنان لحنجرته التي تغنت بأغاني الحاج محمد العنقاء والشيخ الحسناوي بقوة وحب، وبعد 39 سنة من الغياب يعود والده إلى القرية وبالتحديد سنة ,1972 حاملا معه هدية ربما هي الأغلى والأهم في حياة الوناس كلها، كانت ''آلة موندول''، مصنوعة من الخشب الرفيع، كان أغواؤها فضيعا لدرجة أنه خاف الاقتراب منها وبات الليل كله غارقا في أحلامه.
الفتى الصعلوك لم يحفظ الهدية وبعد مرور سنة تماما تنازل عنها مرغما لابن عمه بعد أن وعده بأن يعطيه إياها في ''لعبة مخاطرة'' وما كان منه سوى أن وفى بوعده وخسر ''الموندول''.
كذلك، لا يمكننا أن نمر على طفولته دون أن نعرّج على ''الملك يوغورطا''، الزعيم الأمازيغي المقاوم الذي اعتبره الوناس بطل أحلامه دون منازع وقضى لياليه الشتوية الطويلة مقرفصا أمام المدفئة أو ''الكانون'' وهو يقرأ عن مغامرات الملك الذي عزّز بداخله الوعي بالهوية الأمازيغية، وكثيرا ما ردد الوناس أن أكثر شيء أحزنه في قصة الملك يوغورطا هي النهاية المأساوية التي جعلته يقع أسيرا بين أيدي الأعداء.
عندما يمسك معطوب الحياة من عرقوبها
الشعر هو طريقة لإمساك الحياة من عرقوبها، هذه هي الحكمة التي كانت تسكن رأس الوناس، الذي انفجر بشعره العميق وصوته القوي وطار الحياة كأنها عصفور يهرب منه بين الأشجار.
ولم يحدث أن تعرى شاعرا أمام الناس كما عرّى معطوب بشعره كل شيء، فكان مناضلا صلبا وكان عاشقا ولعا وكان مقاوما لا يهدأ، ولم تكن علاقته بالكلمة عابرة، بقدر ماكانت قضية حياة أو موت.
وكما يقال أنه ليس هناك خيارات كثيرة أمام الشعر، فهو إما أن يكون مع الناس أو يكون ضدهم، فاختار هو أن يكون مع الناس فحمل همومهم وقضاياهم عاليا بشعره وصوته الفذ.
الوناس لم يتخرج من معاهد لدراسة الفن والموسيقى، بل كل ما كان يملكه هي الأذن الموسيقية التي شنّفت بسماع فطاحل الشعبي وكذا أغاني التراث والمرثيات الجنائزية، ولم يكن شعره سوى مرآة للطبيعة التي كانت تسكنه بجبالها ومائها فجاء شعره صافيا، قويا وصادقا وشفافا مثلها.
قال الطاهر جاووت، ''الصمت مرادف للموت، أنت إذا تكلمت تموت وإذا سكت تموت، إذا تكلم ومت''، يبدو أن هذه الكلمات هي المرجع الوحيد الذي كان يجعل الوناس ينفجر بشعره ويجعله في خدمة قضايا النضال، فكانت البداية من الثمانينيات بانطلاق الربيع الأمازيغي للكفاح من أجل الهوية الأمازيغية، فسخّر شعره وصوته من أجل ذلك، ولا يكاد يذكر التاريخ الأمازيغي شاعرا أو مطربا جعل قضيته الأمازيغية كما فعل معطوب، فجاءت روائعه الشعرية متلاحقة خلال سنوات الثمانينات وطالب مثل كل الأمازيغيين بترسيم اللغة الأمازيغية والكف عن اعتبارها لغة تصلح للرقص والغناء فقط، كما عبر عن ذلك في أحد قصائده.
شعر الوناس وصوته كان لهما الأثر البالغ في منطقة القبائل وصار الشاعر رمزا أمازيغيا وصوتا قويا يوصل الرسائل النضالية التي ربما يعجز عن إيصالها أي شيء آخر غير الشعر والغناء، فصدح بأغنية ''رو أيول'' بمعنى ''ابك يا قلبي'' التي انتقد فيها تهميش اللغة الأمازيغية وقصائد أخرى خاطب فيها جبال جرجرة التي وصف شوقها له ودعها للصمود والبقاء شامخة، كذلك قصيدته ''اثروا نلحيف'' أو ''أبناء الشقاء'' التي عبّر فيها عن عزمه وتصميمه للوصول إلى هدفه.
أكتوبر 1988
لم تكن ليلة 8 أكتوبر 1988 ليلة عادية في حياة الوناس، بل كانت منعرجا حاسما أثّر في حياته لسنوات عديدة وجرحا بالغا لم يشف أبدا.
خرج مثله مثل كل الشباب الثائر على الأوضاع مطالبا بالحريات ولكن حظه التعيس جعله يصاب بخمس رصاصات استقرت في جسده، أطلقت عليه تحديدا في منطقة ''ميشلي'' بأعالي القبائل، ليبقى طريح الفراش يصارع الموت لسنوات، حاملا معه شرجا اصطناعيا لمدة عامين جعله يتأقلم بصعوبة ويحرم من الغناء أمام جمهوره.
ومنذ ذلك الوقت وهو يتكىء على عكازين نتيجة خطأ طبي جعل أحد أقدامه أقلّ بخمس سنتيمترات عن القدم الأخرى وخضع إلى 14 عملية جراحية خلال 18 شهرا.. هل يمكنه أن يصمت الآن؟
لا.. لم يصمت بل خلّد الحادثة بقصائد وروائع غنائية لا تموت أبدا حتى بموته هو، فوصف لنا بصوته الحزين كيف سقط مضرجا بدمائه وجعلنا نعيش لحظات الوجع والمعاناة والرصاص يفجر أمعائه وعظم فخذه وسلسلة الظهر واليد.. هل يمكن أن يسكت بعد الآن؟
الحب جحيم يطاق
وجع على وجع وفي نفس التوقيت تختار الزوجة الفراق والابتعاد عن هذا الرجل المهزوم، هي لم تفعل لأنها رفضت العيش مع جثة أو مع رجل مصاب ولكنها ربما اختارت التوقيت الخطأ لتعلن انسحابها من حياة هذا الشاعر الذي يبحث عن الموت في حين هي تبحث عن الحياة!
جميلة.. هكذا خلدها قلبه وخلدتها قصائده التي عرّى فيها حياته الخاصة كما لم يفعل أحد، ولم يقف صامتا أمام التقاليد والعادات في وصف مشاعره الحقيقية لزوجته التي عاشت وصبرت معه كثيرا ولكنها في آخر المطاف جهرت برفضها لطريقته في الحياة.. أو الأصح في الموت.
رفضت أن تفقده، رفضت أن يكون قربانا للقضية، لكنه أصرّ على ذلك فما كان منها سوى الرحيل وماكان منه سوى اقتفاء الأثر بالشعر والنحيب.
خاطبها صراحة في قصائده وصرخ بقلب العاشق.. جميلة حيثما رحل وارتحل ولكنها أخذت القرار ولم ترجع عنه، لم تستدر ولم تسمع صرخاته الباكية لأنها ملّت بكاءه الذي لا يجدي نفعا.
بقي طيفها يحوم حول كل قصائد الحب التي غناها ومع ذلك التمس لها كل أنواع العذر عن موقفها وصرخ أمام الجميع أنها محقة في ذلك، وغنى لها قصيدة ''ثرولا'' بمعنى الهروب، أين دعاها صراحة للهروب منه مادامت قادرة على العطاء، معللا ذلك بأن جذوره تعفنت ولم تعد تصلح لشيء، من خلال نفس القصيدة يفصح لنا الشاعر عن معاناة أخرى يعيشها وهي ''العقم'' وهذا ما جعله يشفق على حبيبته ويطلق قيدها حتى لا يكون أنانيا معها ويتحمل معاناته لوحده.
بعد جميلة تزوج الوناس ''سعدية'' وبعدها ''نادية'' لكن قلبه بقي وفيا لحبه الأول وهذا ما تفضحه به أشعاره التي بقي طيف جميلة يسكنها لآخر حياته فكانت روائع ''المحنة'' و''يهوايام'' التي حكى فيها وجع الحب وحرقة البعاد.. لكن لا مجيب.
هذا هو الفرق بين الحب الفاشل والحب الحقيقي، الأول يؤلمك شهرا في حين الثاني يؤلمك مدى الحياة.
بكاء الكلمات
نهض الوناس من رماده وبقي يقذف بقصائده النارية التي عبرت فعلا عما كان قلبه وبدأ يجوب الدنيا بصوته متنقلا بين باريس وبروكسل وكاليفورنا ومونتريال، جاهرا بالدفاع عن الأمازيغية ثقافة ولغة وهوية.
غنى البؤس والوجع والظلم والغربة والوطن، هذا الوطن الذي نزف أيام التسعينيات وصار الدم سيد الموقف، يأخذ من الأبرياء ما أخذ ظلما وقهرا وعنوة، لم يسكت الشاعر عن الظلم ففجر حنجرته برثائية للرئيس الراحل محمد بوضياف، الذي أّخِذ غدرا، فبكى وأبكانا معه وكانت من أبلغ القصائد التي عبرت عن القهر الذي عشناه في تلك المرحة.
كذلك رثى الطاهر جاووت وخاطبة ابنته ''كنزة'' من خلال قصيدة ذكر فيها اسماعيل يفصح وبوسبسي وفليسي وهوّن عليها مصابها وقال ''...كلنا قرابين لجزائر الغد''.
هكذا صرخ الوناس في وجه الإرهاب الأعمى الذي دمر وذبح وقتل وفعل ما فعل وحارب بصوته وشعره الممارسات الإرهابية الشنيعة ورفض أن يهاجر أو يغادر الوطن كما فعل غيره، كان يقول.. أنا لا أستطيع العيش بعيدا عن وطني.. أختنق، لا أتنفس بعيدا عن الجبال والأرض.
الجماعات الاسلامية المسلحة GIA تخطف معطوب
في سبتمبر 1994 تم اختطافه من طرف الجماعات الإسلامية المسلحة بمنطقة تاخوخت، بتيزي وزو، وبعد ضغط جماهيري غفير وتجند كل سكان منطقة القبائل للبحث عنه تم إطلاق سراحه بعد 17 يوما من الاعتقال.
تجربة فريدة عاشها الشاعر مع عناصر الجماعات المسلحة، لم تدفعه إطلاقا للهروب، بل زاد إصرارا وتحديا على محاربة قامعي الحرية والفكر، فأطلق نيران شعره من جديد على كل ما هو ظالم وجائر ومواصلة رسالة الكفاح التي عبر عنها بقصيدته ''ثبرات الحكام'' أو ''رسالة مفتوحة'' التي تضمنت نقدا لاذعا لما كان يحدث في البلاد وذكر أسماء كثيرة في القصيدة منها بويعلي ونحناح وأيت أحمد وسعيد سعدي وخليدة تومي وعلي ديلام وغيرهم، كما شدد على ضرورة إرساء الأمازيغية كلغة رسمية وترسيخ مبادئ الثقافة البربرية.
قصيدته ''ذاغورو'' أي بمعنى ''الخداع'' كانت أيضا متميزة لما حملته من معان قوية ورسائل حقيقية عن الوضع في البلاد على الرغم من النبرة التشاؤمية التي ظهر بها الوناس على غير عادته، وكان ذلك آخر ما غنى الوناس، بعد أن تقيّأ الوجع الذي سكنه منذ الطفولة.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
إغتيال جبان
انطفأ جسده النابض ذات 25 جوان 1998 في منطقة تالة بونان، برصاصات قاتلة كانت النهاية، هذه المرة لم تكن الرصاصات رحيمة معه ولم تشفق على زوجته الفتية التي كانت ترافقه هي وأختيها في السيارة فأردته قتيلا لا يأسف سوى لأنه لا يملك إلا حياة واحدة ضحى بها في سبيل الوطن!
الوناس كثيرا ما ردد أنه يعرف بأن الموت سيكون من نصيبه مثلما كان من نصيب كل الذين سبقوه من الكتاب والصحفيين والفنانين والأبرياء الذين كانوا مصيدة لرعونة الإرهاب.
هذا الاغتيال تسبب في قيام مظاهرات احتجاج كبرى ومواجهات عنيفة من طرف سكان القبائل رافضين أن ينتهي مطربهم المفضل بهذه الطريقة الفظيعة ونظموا له جنازة مهيبة حضرها عشرات الآلاف من الجزائريين.
لا تحزن أيها الشاعر، فعشاقك ما يزالون أوفياء لك ولشعرك، ما تزال نسوة القبائل ترقص على ألحان رائعتك ''أسلعبيت أيا بحري'' وما يزال العشاق يرددون خلفك زفرات الحب وحنجرتك تأسر الصغير قبل الكبير، لا يمكنك أن تطلب أكثر لأنك ما تزال تعيش وتتنفس أكثر مما كنت من قبل وما يزال اسم معطوب لوناس هو الأول بين مطربي القبائل وسيبقى كذلك دائما.
نم قرير العين أيها الشاعر، فالإنسان يحب الحياة لأنه يحب الحرية ويحب الموت متى كان الموت طريقا للحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.