لقد قيل الكثير بيانا في القرآن عن فضل العلم وشرف أهله وطالبيه ومحبيه ومحبي أهله، وفي ضرورة طلبه وحاجة الإنسان إليه وفي الدعوة إلى إتباع خطاه وإتباع أصحابه والاهتداء بهم، والعلم المقصود في القرآن الديني والدنيوي معا، فلا رهبانية في الإسلام. قال تعالى: ''وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين'' (القصص: 77). وبيّن القرآن في أكثر من مرّة بيان الحاجة إلى القوة العلمية والمادية والاجتماعية لضمان المجد والسؤدد والاستقلال والكرامة، فلا كرامة مع جهل شديد وفقر مدقع وعبودية قاهرة واستبداد وتخلّف وانحطاط وتبعية. قال تعالى: ''وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ'' (سورة الأنفال: 60). بيّن القرآن الكريم وأوضحت السنّة النبوية الشريفة مخاطر الجهل ومهالكه على الإنسان وعلى حياته، وما يصنعه من ضيق نظر وتعصّب وانحطاط في الفكر والسلوك، وضعف في الإحساس والشعور والتفكير، وفقر في الإدراك والمعرفة وفي الحياة عامة، واختلال وفساد في الأنظمة الفكرية والمعرفية، وفي الروابط الاجتماعية، وميّز الإسلام بين العالم والجاهل، وفضّل الإمام العالم العامل على العابد الزاهد. وخصّ الله سبحانه تعالى العلماء دون سواهم بمنزلة ثالثة بعد شهادته بالألوهية وتفردّه بالوحدانية والربوبية أنّه لا إله إلاّ هو، وبعد شهادة الملائكة، شهادة العلماء عدل وحقّ أنّه هو الله وحده ولا يوجد غيره، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد. قال تعالى: ''شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط'' (آل عمران: 18). ففي الإسلام لا يستوي أهل العلم مع غيرهم، فضّل الله الناس بعضهم على بعض درجات في العلم والإيمان والتقوى والعمل الصالح، وليس في اللّون أو المال أو الجاه أو السلطان كما فعل ويفعل الجهلة من الناس. قال تعالى: ''قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون'' (الزمر: 9). وقال تعالى: ''يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات'' (المجادلة: 11). إنّ المكانة التي خصّ بها الإسلام العلماء عظيمة بعظمة الرسالة الملقاة على عاتقهم، وجليلة بجلال وعظمة دورهم في تعليم الناس دينهم وتعريفهم بربهم في دنياهم وبالنسبة لآخرتهم، وخطيرة بالنسبة لثقل ووزن مسؤوليتهم عن انحراف الأمة وفسادها وبعدها عن ربها وعن دينها، فهم حماة الدين ورعاة الشرع صونا وحفظا وتحفيظا وتعليما، وهم صناع المجد والسؤدد في الدنيا، وتخلّي العلم عن أداء الأمانة وتبليغ الرسالة إهمالا وتهاونا وتقاعسا أو انحيازا للمال أو الجاه أو السلطان هو إفلاس أمّة وخراب ودمار حياة بأكملها وتبعة ذلك عظيمة، فلا يوجد غير العلماء يجمعون العلم ويعملون به ويعلّمونه فيسود الحق والعدل والجد والسؤدد، لأنهم هم أعرف بالدين والدنيا، واللّجوء إليهم لا لغيرهم ضروري، وفي هذا قال القرآن الكثير. قال تعالى: ''إنّما يخشى الله من عباده العلماء'' (فاطر: 28). وقال تعالى: ''وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون'' (العنكبوت: 43). وقال عزّ وجلّ: ''ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم'' (النساء: 83). ويبقى حري بأمّة الإسلام أن تستمسك بعلمائها في طلب العلم باستمرار وفي علاج أحوالها عملا بقوله تعالى: ''فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ'' (النحل: 43). ولقوله عزّ وجلّ: ''وقل رب زدني علمًا'' (سورة طه: 114). قال القرطبي: (فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم). لقد تأكّد فضل العلم وشرف أهله ورفعة طلابه ومحبّيه في السنّة النبوية الشريفة، وبأن جليا في أقوال وأفعال النبي صلّى الله عليه وسلم وفي سيرته عامة، قال رسول الله: ''من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل له به طريقاً إلى الجنة'' (رواه مسلم). فالعلم في الإسلام مكسب ديني ودنيوي، فهو طريق إلى المجد والسؤدد في الحياة الدنيا، يصنع أسباب الراحة وينتج الحضارة بشقيها المعرفي النظري والمادي التطبيقي، فكل الحضارات التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل أوّل ما تميّزت به التقدم العلمي والفكري والمعرفي، ثم انعكاس ذلك على العمل والتأثير في الطبيعة والمجتمع، ويتجسد في وسائل ومناهج العمل في مختلف قطاعات الحياة، بما في ذلك الوسائل والمناهج المستخدمة في البحث عن المعرفة وفي سائر الدراسات التي شهدت تطورا هائلا في عصرنا الحالي، الذي يعتبر بحق عصر التقدم العلمي والتكنولوجي، وأصبح العلم في عصرنا مقياس التقدم والتحضر تتبارى الشعوب والأمم في نيله وتطويره لامتلاك القوّة وضمان الاستقلال والسيادة، فلا حرية ولا حياة فيها سيادة واستقلال ولا عيش كريم مع الجهل والتخلّف والانحطاط. ولما كان العلم وسيلة لبلوغ المجد في الدنيا وسبيلا إلى السعادة في الآخرة صار موضع غبطة ومحل تباري وتسابق، قال رسول الله: ''لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه مالاً فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها'' (متفق عليه). وما يزيد العلم شرفا ورفعة في الإسلام دوره في الدنيا وفي الآخرة، وأثره الطيّب على أصحابه في حياتهم وبعد مماتهم، وهو أمر يتفرّد به الإسلام. قال رسول الله: ''إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له'' (رواه مسلم). والأجمل في العلم من المنظور الإسلامي اقترانه بالنبوّة حفظا وتعليما وميراثا. قال عزّ وجلّ: ''هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ'' (الجمعة: 3). فالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه الله معلّما ومبشرا ونذيرا وهاديا إلى الصراط المستقيم، فاقترنت في الآفاق رسالة العلم والعلماء بالرسالة النبوية وصار العلماء ورثة الأنبياء. قال رسول الله: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا تَصْنَعُ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْبَحْرِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ). لقد أدركت الإنسانية منذ عرفت الوجود في هذا الكون الفسيح ما في العلم من منافع ومصالح لا تأتي بغير العلم، وذكر ذلك الأنبياء والعلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء كلّ في عصره وفي مصره، هذا أحد الشعراء يتغنّى بالعلم وبآثاره وأمجاده فيقول: العلم يرفع بيتاً لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العزّ والشرف العلم يسمو بقوم ذروة الشرف ... وصاحب العلم محفوظ من التّلف يا طالب العلم مهلاً لا تدنّسه ... بالموبقات فما للعلم من خلف ارتبط نهوض الأمم والدول والشعوب عبر التاريخ بالتقدم العلمي والفكري، فالنهضة الأوروبية الحديثة في حقيقتها هي ثورة علمية في مجال الطبيعيات والعلوم الدقيقة وفي ميدان التكنولوجيا والصناعة، فانقسمت أمم العالم إلى مراتب حسب قدراتها العلمية والصناعية، ودخل العلم ودخلت الصناعة كل قطاعات الحياة بدون استثناء، وأنتج العلم المفارقة بين عالمين بينهما هوّة سحيقة، عالم متقدم يملك العلم والتكنولوجيا ويحتكرهما يتمتع بالاستقلال والسيادة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، كما يمارس هيمنته ونفوذه على العالم من غير رقيب أو حسيب، وعالم متخلّف متدهور في حياته عامة يعاني الفقر إلى حد الجوع والجهل والاستبداد والجور والحرب وغيرها من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يفتقر تماما للحرية والاستقلال والسيادة، والعالم العربي الإسلامي جزء من العالم المتخلف، على الرغم من كونه ينتمي إلى أمة القراءة والعلم فهو يعاني الجهل ولم يستفد مما توصّل إليه العالم المتطور، لقد جاء في تقرير لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أن متوسط قراءة الفرد في المنطقة العربية بلغ ستّ دقائق في السنة، مقابل اثنتي عشرة ألف دقيقة في السنة للغرب، أي ما يقارب من أحد عشر كتابا للأمريكي، وسبعة كتب للبريطاني. فالإنسانية في مسيرتها الحياتية عرفت التطور على مستوى الفكر والمعرفة وعلى مستوى العمل والمادة، بإعمال العقل واستثمار الطاقة في الإنسان وفي الكون، فأبدعت في طريقها إلى الكمال الإنساني وقد ركبت موجة التفوق والتألق وهي موجة العلم التي من دونها يستحيل الوصول إلى برّ المدنية والحضارة والسعادة.