وحيدا مثل جرح يضع قدما في الأرض وأخرى في الغياب الواسع، وحيدا مثل أغنية تسافر في فضاء الروح بسرعة الضوء أو أكثر ولا تعود، وحيدا مثل نبضي المترهّل حين يسقط في ثقب أسود ملتحف بالرهبة والموت البارد.. هكذا أبدأ ترنيمتي الأخيرة قبل أن تنتبه النهاية إلى وجودي فتقضمني على حين غرة، فالنهاية لا تبعث الإشعارات، ولا رسائل ال sms إلى بريد القلب المفجوع، هي تأتي هكذا وفقط، تظهر فجأة مثل سهمٍ قديم أرسله هرقل شديد البأس، فظل مسافرا كالطير لا يصطدم بشيء في الهواء حتى يجد قلبا خاليا إلا من الفجيعة على حال العالم فيغوص في أعماقه معلنا خاتمة الرحلة وخاتمة القلب المسكين. والنهاية لا تنتظر أبدا.. فلو كانت تمهل لكتبت قصيدة أمدح فيها الوردة، فأنا لم أفعل ذلك من قبل. وربما كتبت نصا أوظف فيه مفردات اللغة التي كنتُ «أتكبّر» عليها مثل: «الذبابُ، البعوض، الكلب، الخيمة، البطاطا (من الخضر)، البطيخ...» وغيرها. وربما كنتُ أرسلتُ Email إلى أكثر حبيباتي إيلاما لقلبي، لأخبرها بأنني سأموت بعد 7 دقائق مثلا، أو أخبر عاشقة لم أكن أحبها بأنني سأغيّر عنوانيَ الحاليَّ، وأنتقلُ إلى الغيب ممتلئا بالذاكرة، وسأسكن في لا مكان، وحيدا إلا من عينيكِ اللتين لم أفهمْ سرّهما فاخترتُ النأيَ على البقاء، كنتُ سأخبرها بأنّها، هي، بالذاتِ، تلك التي لم أحضن أشواقها يوما، كانتْ ستكون زوجتي مثلا. وبعيدا عن هذه الاحتمالاتِ، كنتُ سأكتب رسالة إلى الريشة والورق الأبيض أتأسف فيها عن انحيازي الكليّ إلى الشعرِ، وعزوفي منذ أكثر من سنتين عن ملائكة الألوان الجميلة التي كانت تعرف كيف تشكّل نبضي على البياض سعيدا كما لم أعهده من قبل، وربما سأخبرها بأنّي توقفتُ عن الرسم لأني خشيتُ على نفسي من السعادة المفرطة في هذا العالم البائس. وأخيرا كنتُ سأكتبُ اعتذارية طويلة، أطول من كل اعتذاريات النابغة، إلى أمي، أطلب منها الرضى والغفران، وأعتذر باكيا عن وجودي، ذات صباح ثمانينيٍّ، الذي سيورثها الحسرة بغيابي، وسأعتذر لأمي الحياة، ولأصدقائي على كل أعيادِ ميلادي السابقة التي تبدو الآن بلا فائدة، وسأكتب في آخر السطر إهداءً إلى البياض الجميل، إلى هائه التي تفيض بالنور... وأموت وحيدا. كنتُ سأكتب كل هذا، غير أنّ النهاية لا تنتظر، ولا تنبئ بوجودها، فهي كالضيف الخفيف الذي يشبه الطيف، وربما لأنها كريمة النفس، ورحيمة!! تختار الفجاءة على كل شيء. أتذكَّرُ الآنَ، وفي سرعة البرق، كلّ الحوادث التي رأيتها أو تعرضتُ لبعضها، مثلا اصطدامي، في سيارة أجرة، بشاحنة في ضواحي فرندة / تيهرت، وإذ حدث الارتطامُ وخرجنا -جميع الركاب - من الحادث معافين من الهلاك والموت، أسرعَ السائق إلى إيقاف أغنيةٍ لم يفتأ يرددها طول الطريق للشاب حسني رحمه الله يقول فيها:«راني خليتْها لكْ أمانه / تهلّا فيها ما تغبنهاشْ / هذيكْ حْبيبْتي أنا ربي ليا ما اكْتبْهاشْ»، لا أعرف كيف شككتُ يومها في شعر محمود درويش: «هزمتكَ يا موتُ الفنون جميعها»، كان شكي مرتبطا بهولِ الصدمة وبارتفاع شديدٍ في الضغطِ، وسرعان ما زال بعد ذلك. وإذ أتذكّر بعض هذه الحوادث يصبح للحياةِ طعمٌ آخر، ولكني عرفتُ بعد ذلك بأنَّ الموتَ هو قمة النضج والمعرفة، فالتفاحة الأنيقة لا تفقه حقيقة وجودها إلا حين تسقط على رأس نيوتن فيرتبط موتها بحياة معرفة الإنسان، أو حين تُقضَم، تماما مثل فراشة العارف التي تختبر النار لتدرك سرّ النور، فلا تعرف شيئا إلا بالفداء، فتحترق...وتحترق الحقيقة معها. احتراق أول: «أقول المدى وشتات النهاياتِ في الذاكرةْ أقولُ الجراح التي تشتهيني وأسقطُ في هوَّةٍ بين جسمي الممزَّقِ والآخرةْ». ولنفرضْ مثلا أنِّي قد انتقلتُ إلى العالم الآخر، فارغا من جسمي الذي ألفته، متوهّما وجودَه بالطبع، وواقفا بين حياتين. أحاول أنْ أتذكّر وجودي فيبدو غارقا تحت جبالٍ من النسيان؛ مختنقا، غير أنِّي أتذكّر بعض الأشياءِ بتفاصيلها، على سبيل المثال أذكر قطة البيت وهي تأكل من يدي وتشكرُ رعايتي لها باللعب وبالتمدد بجانبي. أتذكّر يوم ولادتي، أرى القابلة التي كنتُ أكرهها في صباي يوم أخبرتني أمي بأنّ هذه المرأة هي من استخرجتني من....!! وأرى في وجهها -الآن- حبا عميقا لم أتبيّنه إلا في ذلك العمر (دقيقة ونصف من الحياة). أتذكّر كذلك وجهَ جدتي، ثم ألتفتُ لأبحث عنه، فقد سبقتني إلى هذا العالم. أبصرُ نورا بهيجا، وأتساءل: لماذا أوهمونا بأنّ البرزخ مظلم؟ أتذكّر أيضا بأنني شاعر، وهذا غريب جدا في هذه اللحظة، فالشعراء يوصمون بشتى أنواع الاتهامات في الحياة الدنيا، غير أنّ صوتا سماويّ الإيقاع يهمس في أذني: «الشعراء أجمل كائنات الله، لأنّهم يحملون أوجاعَ العالم فيموتون حزنا وغمًّا». احتراقٌ ثانٍ: «في قلبي ثقبٌ أسود يتمدَّدُ عبر مجرّة هذي الحرب العمياءْ في قلبي وجعٌ أسود يقتاتُ على غصّتِه نسرُ الموتِ ويسبحُ في أعماقِ جهنَّمِه نبضي المترهّلُ وجنونُ غدٍ مرٍّ تمدحُ أنهارَ شقاوته الأنباءْ». سأخرج من افتراضي المفجع هذا، وأعودُ إلى الأرضِ حيث الدم صارَ أنشودة تداعب جسد البلدان بشبق غير مبرر، والبكاءُ، من شدّة البكاء، تحجّر، وتحوّل إلى منحوتات ما بعد حداثية تكتنز بالمعنى الأوسع من المجرّة. وأصبح الإنسانُ هذا الكائن الضعيف وجبة دسمة للصواريخ والقاذفات، ولجنون السيد الدكتاتور الذي يحارب مع الموتِ ليشتريَ -متوهّما- صكّ الحياة. هكذا، يموتُ الإنسانُ وحيدا ينسحق تحت دبابة وحيدا تخترقه رصاصة طائشة وحيدا يفقد جسده الترابيّ فيبقى روحا وحيدا يلاحظ مصير العالم، ويشهد على الأيادي الحمراء ليزج بها في الآخرة في سجن رهيب يسمى الجحيم. وهكذا أبقى وحيدا إلا من وجع الشاعر الساكنِ فيْ احتراقٌ أخير: لا أعرفُ -بالتحديدِ- إلى أي سماءٍ غامضةٍ أرسلتُ عيوني/لأرى مدنا تتساقط في قلبي/وطوائف حاقدة تتقاتل في عتمةِ طيني. لا أعرف -بالتحديدِ- أنا الغافلُ -ما أخفتهُ اليقْظةُ عني منْ أسرارِ الأرضِ / وما كشفتْ ريحُ الحسرةِ من نازلة صفراء تزعزعُ صحراءَ يقيني. عسكرتِ الرومُ، بلا خوف، عند حناجرنا والزرقاءُ ترى ما في الغيبِ / ولا تبصرُ ما تحتَ الذقنِ من الجرحِ الصارخِ وترى فترى ما في الغيبِ / وما خلفَ حدودِ الغيبِ من العربِ الأعداءْ. لا أعرف -بالتحديد- أنا الخارجُ للتوِّ من الغبطةِ - في أيِّ سماءٍ أهفو / وبأيِّ بلادٍ فارقتُ الجسدَ /الأرضَ / وسرتُ-بلا علمٍ - في قافلة الشهداءْ نهاية: صرتُ معنايَ يا عيونَ الفناءِ صرتُ معنايَ وارتديتُ خفائي صرتُ معنى، ولمْ أراقبْ جنوني في المرايا وفي عيون النساءِ صرتُ معنى، وكنتُ منذ قليلٍ أتمشى في ساحة الشهداءِ