الإسلام ليس هو التمثلات المبلورة حوله، الإسلام مصدر والتمثل خطاب حول الخطاب بالتعبير النقدي، ويظل التمثل تمثلا لا يمكنه أن يصبح أصلا، فالتأصيل استحالة بعبارة أركون، استحالة إذا كان يعني توهم تملك اليقين.يظل كل طرف يسعى للتماهي بالأصل، ويبقى السعي بديهيا، لكنه ينقلب فخا لما يتحوّل السعي إلى توهم تملك اليقين، تملكا ينفي تمثلات الآخرين، وما يتبلور في الصدامات التي تشهدها الساحة العربية والإسلامية. الإسلام منظومة تتكامل حلقاتها وتتواصل بتفاعل على أساس عقيدة التوحيد وما يتفرع عنها من مستلزمات قيام ووجود الأمة الوسط، والتفاعل يتم وفق رؤية مقاصدية تتأسس على المقاصد أو الكليات التي أسهب في تفصيلها علماء وأساسا الشاطبي في الموافقات. الدين هو المطلق، السياسة هي النسبي. الدين هو المقدس، السياسة هي الدنيوي. الدين له دائرته والسياسة لها مساحاتها. بين الدين والسياسة اتصال في مصالح يراد لها التحقق وعلى أساس الرؤية والمقاصد الكلية للشريعة. وفي سياق الاتصال، هناك التمايز الذي يقي من التداخل الذي يؤدي إلى نشوب الفتن وأكبر الفتن التي عرفها التاريخ الإسلامي ناجمة عن الخلط من زمن الفتنة في عهد عثمان إلى الفتن التي تمزق الكيان حاليا. فالفصل لازم، وهو فصل كما عنون ابن رشد كتابه «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» وقياسا عليه نقول «فصل المقال في ما بين السياسة والشريعة من الاتصال». ما يحدث كشف أساسا عن ضرورة إعادة الاجتهاد في ما اصطلح عليه السلف بالسياسة الشرعية التي هي، كما ذكر العلامة ابن عقيل الحنبلي: «ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولم ينزل به وحي». يقول الكاتب محمد حلمي عبد الوهاب: (لا شك في أن الخلط الشائع ما بين الشريعة والشرعية الدستورية يثير تساؤلات شتى على أكثر من مستوى فكري، منها ما يتعلق بمدى قدرة الشريعة على استيعاب الطفرات الهائلة التي تنمو باستمرار في عالم اليوم، وما إذا كان بإمكان جملة القواعد التشريعية التي كانت وليدة ظروفها التاريخية الخاصة أن تنتظم في هذا الفضاء العام الذي يُعيد مرارا وتكرارا هيكلة الأوضاع وفق أسس ومبادئ جديدة لم يعد حتى في الإمكان التنبؤ بها، وما إذا كان سيتم التعامل مع هذه الإحداثيات، والحال هذه، وفق مبدأ «محدثات الأمور» وأن كل محدثة بدعة... إلخ، أم سيتم تقبلها بمرونة من خلال تقنينها دستوريا؟ ومع ذلك، فإن الحل الأمثل لهذا الإشكال برأينا إنما يكمن في إرساء قواعد الممارسة الدستورية التي تأخذ في اعتبارها الشريعة في إطارها المقاصدي «أينما تكون المصلحة فثم شرع الله» بدلا من القول بأبديتها، كما هي محددة في شكل نهائي في سياق الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر. أي أننا في أمسّ حاجة إلى دستور ليبرالي إسلامي عبر إعمال المزيد من القواعد» الاجتهادات الجديدة التي تتواءم مع معطيات العصر، إن لم تتجاوزه نحو مستقبل أشد انفتاحا وأكثر رحابة، بخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن دعاة تطبيق الشريعة اليوم من أتباع حركات الإسلام السياسي عادة ما يقومون باختزالها في بُعدها الجنائي فقط، والذي لا يتعدى 2 في المئة منها! «تحديدا بواقع 4 آيات من أصل 220 آية تحدد أصول الشريعة في القرآن الكريم»، ما يعني أن ثمة 98 في المئة من الشريعة لا يزال مهملا وغير مطروح بتاتا، الأمر الذي من شأنه الإجحاف بحق منظومة الحقوق المدنية والسياسية وترجيح كفة الواجبات على حسابها). أشكال الانتماء إشكالات كثيرة تطرح بقوة في سياق الأحداث التي يعرفها فضاءنا العربي الإسلامي، ومنها إشكال الانتماء. سبق للمؤرخ محمد حربي أن عنون كتابا له بسؤال: «مؤمنون أو مواطنون؟» وهو السؤال الحاضر بقوة في ظل التباسات الصيغ الموظفة في الخطابات. منذ عقود رفع شعار «الدين لله والوطن للجميع» وهو شعار يعود كما يذكر الاقتصادي سمير العيطة رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس إدارة موقع مفهوم (منذ القرن التاسع عشر ولا سيما منذ بطرس البستاني، الذي دعا «أبناء الوطن» (المواطنين) إلى «نبذ التعصبات الدينية والتحزبات المذهبية والعداوات الطائفية». بعده رفع فيصل الأول هذا الشعار عندما بويع في سوريا في 1918 أمام رؤساء جميع الطوائف الروحية، على خلفية أحداث طائفية وقعت مع الأرمن، عقب تواجد كتائب أرمنية في جيش الحلفاء الزاحف ضد الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد ارتكبت مجازرا ضدهم. ولم تمضِ سنة حتى رفع الزعيم سعد زغلول (خريج الأزهر الشريف بالمناسبة) الشعار نفسه موحدا شعب مصر ضد الاحتلال الإنجليزي: «إن الوطن لكل الناس باختلاف أديانهم وألوانهم وثقافتهم شيء مهم جدا، بل وأساسي لنهضة الشعوب في كل الأرض. وإن على كل إنسان أن يعتقد أو يؤمن بما يرتاح إليه قلبه، فإيمانه متعلق بالله، والله وحده». ثم عاد سلطان باشا الأطرش ليرفعه مجددا شعارا للثورة السورية الكبرى في 1925، وصفعة في وجه تقسيم سوريا دويلات على أساس طائفي)، وهو شعار رفعه في إحدى خطبه الرئيس الراحل محمد بوضياف. الشعار يثير السجال والجدل ويقول العيطة عن ذلك: (تنوّعت ردود فعل التيارات الإسلامية تجاه هذا الشعار، إذ أكد الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة: «إن الديموقراطية باعتبارها تنادي بأن الدين لله والوطن للجميع، وأن شأن الأقليات في الدولة كشأن الأكثرية في الحقوق والواجبات، تمكن الأقليات من التكاتف والتناصر، لاستغلال الوضع الديموقراطي، ضد الأكثرية ومبادئها وعقائدها ودينها. (...) وبالمفهوم المعاصر للوطنية الذي روجه الطامعون بسلخ المسلمين من حقوقهم في السيادة على الأوطان الإسلامية، اتسع شعار الوطنية حتى صار في المفهوم الشائع يضم كل سكان الوطن الواحد، ولو كانوا في الأصل نزلاءه أو ضيوفه أو مقيمين فيه بعهد أو أمان أو ذمة». أما العلامة محمد سليم العوا، فقد برأ الشعار من الدعوة إلى الإلحاد، وربط «الدين لله» بقوله تعالى «ألا لله الدين الخالص» (سورة الزمر، 39)، و«الوطن للجميع» بقوله «والأرض وضعها للأنام» (سورة الرحمن، 10)، بمعنى المواطنين جميعا. في حين يسترجع اليوم بعض أنصار التيار الإسلامي مقولات الشيخ حبنكة، مطالبين بفرض قاعدة الأغلبية على الدساتير والنهج السياسية الجديدة، رغما عن نضالات الاستقلال وتجربة النهضة الأولى... والنموذج التركي. هكذا يظهر الصراع حول شعار «الدين لله والوطن للجميع» كأحد مفترقات الطرق الرئيسة للربيع العربي. وإلا فما معنى المواطنة والمدنية؟ إذا انتصر الإسلام السياسي لهذا الشعار، فذلك دليل على نضوجه التاريخي وتبنيه حقا للديموقراطية. وإذا لم ينتصر، فمرحبا من جديد بما كان يسمى «المسألة الشرقية»، أي تدخل القوى الأجنبية للتلاعب الطائفي بين مواطني البلد الواحد؛ أكان هذا الأجنبي غربيا أم دولة... إسلامية). الإسلام وقيم المواطنة المواطنة جزء من إرث الفكر الغربي، والفكر بقدر ارتباطه بالخصوصيات يمتد ليتحوّل إلى مكسب إنساني. والمواطنة كمفهوم تبلور تشكله بتراكم مسارات من التفكير والنضال والبناء، وتبلور كتحقيق للعقد الاجتماعي. وبعيدا عن التوظيفات الإسقاطية بتعسف لمفاهيم وصيغ، فإن الحديث عن المواطنة في ضوء القيم الإسلامية يدفعنا إلى التوقف عند حقيقة محورية، هي أن المفاهيم ترتبط بالسياقات التاريخية والخصوصيات الاجتماعية الثقافية. ومن أهم المفكرين الذين قاربوا في إطار رؤية إسلامية الموضوع، المرحوم مالك بن نبي، في محاضرة عن الديمقراطية والإسلام ألقاها في دمشق عام 1960 وقف في بدايتها عند الإشكال الاصطلاحي، مشيرا إلى أن كل مصطلح كان في زمن ما كلمة محدثة، وبعد شرح بيداغوجي مركز ودقيق دخل في الموضوع الخاص بالديمقراطية والتركيز عليها في موضوعنا، لأن المواطنة كمفهوم وممارسة مرتبطة بها وذكر بأن الديمقراطية يجب أن ننظر إليها من ثلاثة وجوه: 1 الديمقراطية بوصفها شعورا نحو «الأنا». 2 الديمقراطية بوصفها شعورا نحو الآخرين. 3 الديمقراطية بوصفها مجموعة الشروط الاجتماعية السياسية الضرورية لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد). ومن طرح مفكرنا المرحوم نستعير بيانه للحديث عن المواطنة في ظل الإسلام. بداية القيمة المحورية التي ركز عليها القرآن الكريم هي أن الإنسان أفضل المخلوقات وأنه مكرم تكريما بدأت مراسيمه بسجود الملائكة لسيدنا أدم عليه السلام. وفي الكتاب والسنة تذكير متواصل بمعيار التفاضل الذي يستند على التقوى، فلا أفضلية لعرق ولا لقبيلة ولا مرجعية لنسب. وفي النصوص ووثيقة المدينة بعد هجرة الرسول (عليه الصلاة والسلام) وممارسات الخلفاء الراشدين وخطبهم كخطبتي أبو بكر وعمر عقب توليهما الخلافة وكرسالة القضاء التي بعث بها عمر لأبي موسى الأشعري... بيان للعلاقات التي تربط الحاكم بالمحكوم والتي تنظم العلاقات الاجتماعية. إن العودة إلى تلك النصوص والممارسات تتيح لنا تلمس أرضية نؤسس عليها تناولنا لموضوعنا. المواطنة هي ترجمة لعقد اجتماعي وتجسيد عملي للوطنية كعطاء وكحقوق وواجبات، المواطنة هي مؤشر ترقي وخروج من القولبات التي تتمركز إثنيا أو قبليا أو دينيا أو مذهبيا.. وانطلاقا من البنية العلائقية التي ذكرها بن نبي عن الديمقراطية، فإن البيان نفسه يمكن توظيفه في ما يتعلق بالمواطنة. المواطنة هي شعور نحو الأنا وفي الإسلام المسلم يعي المقام الذي خصه به الله سبحانه وتعالى كإنسان مكرم ويعي دوره كمسلم يمارس مسؤولية الخلافة بانتمائه لأمة الوسط التي تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وفي وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن بلورة دور المواطن المشارك بفعالية في خدمة وطنه وتحقيق سلامته وأمنه ورقيه وفي الوظيفة. ما يعتبر الشعور نحو الأخرين، شعورا يلخصه حديث رسول الله (عليه الصلاة والسلام) «الدين النصيحة» ويلخصه حديث «كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته». أما الشروط التي تتيح تحقيق ما يسمى مواطنة في مجتمعاتنا الإسلامية فهي في البناء النفسي والذهني أو ما يعبر عنه بالتنمية البشرية، وهو متصل بما كتب فيه علماءنا عن السلوك والآداب، بل مرتبط بحقيقة أحد المرتكزات التي تعبر عن الإسلام وهي قاعدة الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». ونموذج إعداد الشروط نجده في المرحلة المكية لما هيأ الرسول الكريم النواة الأولى من المسلمين بتربية روحية وعقيدية أهلتهم ليكون الواحد منهم أمة قائمة بذاتها..