إهداء: إلى ألبير كامو.. آخر مرة متُّ فيها، كانت قبل ثلاث سنوات، أو أربع على الأرجح، أقصد على ما أظن، لستُ أعرف على وجه التحديد، هذا ما يبدو لي، على كل حال لا أجزم. كما أنني من كثرة ما متُّ، لم أعد أذكر بالتدقيق العلّة التي أفقدتني الحياة في آخر ميتة، ثم إن الأمر لم يعد يعنيني بصراحة، تقريباً. لكنني ما زلت أراهم ماثلين بين عينيّ، أولئك الأوغاد، وهم يُهيلون التراب عليّ، وبنشوة عارمة، أراهم حتى إنه بإمكاني أن ألمس أحذيتهم النتنة الآن لو شئت، كانوا يظهرون، -وإن حاولوا إخفاء ذلك-، متبرمين، حنقين، بل ومتشفين، بسبب دفنهم المتكرر لي، رأيت أمارات ذلك على سحناتهم القذرة التي تُقصّر العُمر، من خلال الثقوب الإبَرية لقطعة القماش التي لفّوا بها وجهي، بشدة مبالغ فيها، تشي بحقدهم.. أولاد الكلب.. *** في المقبرة الفاخرة التي حجز لي فيها ابني “مشكورا" لمدة لا أعرف مدتها، كنت أمضي أيامي ولياليّ، ليالي ولا ألف ليلى وليلى! وقد كان ابني يزورني هناك كل أسبوع، ويأتيني مع جملة ما يجلبه لي من فطائر منزلية، وغيرها من مستلزمات الموت، بالجرائد التي كان يدسها لي، خلسة عن مسؤولي المقبرة، مع أحد الحراس، ولست أعرف بماذا كان يرشيه، لكنني أعتقد أنها كانت سجائر مُلغمة، هكذا يسمونها هناك، بالإضافة إلى أفلام إباحية، على كلٍّ لست متأكدا، فهذه أعراضُ ناس. *** لابد أن أصارحكم، الميتة التي قبل هذه، كانت رائعة بكل المواصفات، وقد قضيتها في راحة واستجمام لا مثيل لهما، لكن هذه الميتة، لا شيء فيها على ما يرام، هذا ما أحسّه طبعا، لا أعرف، أعتقد ذلك.. ربما. الأخبار تزعجني هنا، وتقض مضجعي، بل وتنغص عليّ موتتي، ومع ذلك وهذا أسوأ ما في الأمر، لا أستطيع الإقلاع عن إدماني القديم على الجرائد. تتكيف ولا تشم؟ يسألني الحارس كلما سلمني الصحف. أجيبه: لا، لا، أقرأ الجرائد فقط. فيكشر، لا تحملوا هَمًّا، فالتكشير عندنا هنا، ولعلمكم، هو بنفس دلالة الابتسامة عندكم، أعرف أن القضية معقدة قليلا بالنسبة لكم، وأنني أحتاج إلى بذل جهد لإفهامكم، لكن يمكنكم أن تستوعبوني بعض الشيء على أقل تقدير، أتمنى.. المُهم. *** هنا في هذه المقبرة “خمس ظلمات"، “خمس نجوم": كي تفهموني، كنا نسمع من حين لآخر بأحدهم يعود إلى مزاولة الحياة، بعد انقضاء محكوميته بالموت، لكن في الآونة الأخيرة، ومنذ أن كثر الطنطانو، لا أحد يريد الرجوع إلى الأحياء، كلهم يمدّدون فترات إقامتهم، بطلب اللجوء.. زمن العجايب. يقول علماء النازا إن أصل الإنسان ميكروبات طفيلية، قدِمت من الفضاء: يقول لي أحد أولئك الذين رفضوا أن يُسَرَّحوا، ويردف: الديناصور انقرض، والنملة ما زالت تشق طريقها نحو الخلود، “الناس مع الناس والقط يمشّش فالراس"، تركناها لكم يا الفروخة، كولوها بعظامها. *** الأخبار هي السبب!! صرنا لا نصدق، أن كل هذه التغييرات طرأت أثناء فترة غيابنا الوجيزة، وخلال عامين لا أكثر، حتى إننا أصبحنا نشك في مصداقية ما تنشره الصحافة، ولولا أن ابني كان يؤكد لي في كل زيارة، ما تتناقله وكالات الأنباء، لكنت أنا نفسي كذُبت.. أو هكذا يهيأ لي، لا أدري. *** أنظمة بأكملها سقطت، بكامل اكسسواراتها، وتبهدل من كانوا ينعتون بالعُظماء، حار اللبيب، وشاب الولدان، ونوّر الملح، وطارت المعزة. والله لقد رأيتها تطير. كل هذه الأحداث، وأخرى تعرفونها، لم تستفزّني على الرجوع إلى الحياة، لكن نقاشا دار حول لغة الرواية اطلعت عليه، منذ أيام زعزعني، وحرك فيّ الناقد المقبور، وبدون تفكير، قرّرت المشاركة في الحوار. *** هربت من المقبرة، بمساعدة الحارس المُكشّر إياه، المسكين كان في غاية الرقة والكرم معي، فتعاونه لم يكلفني سوى كرطوشة سجائر، وحزمة من الأفلام الثقافية.. مهما يكن، هو حر في تصرفاته.. في ذلك الصباح الباكر، تسللت من المقبرة إلى بيتي، إلى المرآب وجها، شغّلت محرك سيارتي، إلى دار الصحافة سيري أيتها المربوحة، هناك حيث سأحدثهم عن مقالي المُهم الذي سأكتبه، أكرر: س أ ك ت ب ه، والموسوم: “نحو نظرية للخطاب الروائي"، وأنا على فكرة، ضد استعمال اللغة الشعبية في الرواية، وفي الكتابة كلها بدون استثناء، وحتى في الحديث اليوميّ. تنتظرون مني أن أقول لكم: إني نائم وسأستيقظ، صدقوني هذا ما لن يحدث أبدا، لأنكم أنتم من يجدر بكم أن تستيقظوا. *** في الطريق إلى دار الصحافة، وعند أول حاجز مراقبة، أوقفني شرطي مرور، “يا الزّح" لقد نسيت رخصة السياقة في حقيبتي اليدوية في البيت. لا تتبع