الغضب وإن كانت حقيقته جمرة تشعل النيران في القلب، فتدفع صاحبها إلى قول أو فعل ما يندم عليه، فهو عند النبي صلى الله عليه وسلم قولٌ بالحق، وغيرةٌ على محارم الله، ودافعه دوماً إنكار لمنكر، أو عتاب على ترك الأفضل. والغضب له وظيفة كبيرة في الدفاع عن حرمات الله ودين الله، وحقوق المسلمين وديارهم، لكنه إذا ابتعد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تحول إلى شر وعداوة، وخلافات وفرقة. والغضب ينقسم إلى نوعين: غضب محمود وآخر مذموم، ولكل منهما آثاره على النفس والمجتمع، من سعادة أو شقاء، وثواب أو عقاب. فالغضب المذموم هو ما كان لأمر من أمور الدنيا، وكان دافعه الانتصار للنفس، أو العصبية والحميّة للآخرين.. وهذا الغضب تترتب عليه نتائج خطيرة على صاحبه وعلى مجتمعه، ومن ثم حذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأوصانا بعدم الغضب في أحاديث كثيرة، ومناسبات عِدَّة، من ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم : “ليس الشديد بِالصُّرَعَةِ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" رواه البخاري. والصٌّرَعة: هو الذي يغلب الناس بقوته. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني، قال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب" رواه البخاري، وفي رواية “لا تغضب ولك الجنة" رواه الطبراني. أما الغضب المحمود فهو ما كان يغضبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لله ولحرماته، ولم يكن لنفسه فيه نصيب، وكان بسبب اعتداء على حرمة من حرمات الله، أو قتل نفس مسلمة، أو أخذ مال بغير حق، وغيرها من المحرمات والمحظورات التي نُهِيَ عنها في دين الله، ففي مثل هذه الحالات كان غضبه صلى الله عليه وسلم . عن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل" رواه مسلم. فلم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه أبدا، يبين ذلك أنس رضي الله عنه فيقول: “خدمت رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر سنين، لا والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته" رواه أحمد. أما مواقفه صلى الله عليه وسلم التي غضب فيها لله فهي كثيرة، منها: عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي في العفو عنها)، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أتشفع في حد من حدود الله؟!، ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" رواه مسلم. ومن مواقفه صلى الله عليه وسلم التي ظهر غضبه فيها، حين بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه في سريّة، فقام بقتل رجلٍ بعد أن نطق بالشهادة، وكان يظنّ أنه إنما قالها خوفاً من القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً، وقال له: “أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟!، قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!، فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ" رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت قرام (وهو الستر الرقيق) فيه صور، فتلوّن وجهه صلى الله عليه وسلم ، ثم تناول الستر فهتكه، وقال: من أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يصوّرون هذه الصور" رواه البخاري. وشكا إليه رجل إطالة الإمام في صلاته، ومشقة ذلك على المصلّين، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو مسعود: “ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبا منه يومئذ"، ثم قال صلى الله عليه وسلم : “يا أيها الناس، إن منكم لمنفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة" رواه أحمد. بل كان يغضب صلى الله عليه وسلم لمجرّد تباطؤ الناس عن الخير، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: “خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثنا على الصدقة، فأبطأ الناس، حتى رؤى في وجهه الغضب" رواه أحمد. يتبع ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.. من الصور المشرقة والمضيئة التي تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة في جميع الأزمنة والأمكنة ما جاء في الآية الكريمة: “والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" (الحشر: 10). إنها النفوس المؤمنة التي تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة، لا لذاتها، ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوها بالإيمان، وفي طلب براءة قلوبها من الغل والحقد للذين آمنوا، ممن يربطها معهم رباط الإيمان. نقف فيما يلي مع بعض من مدلولات هذه الآية الكريمة. ذكر المفسرون قولين في المراد من قوله تعالى: “والذين جاءوا من بعدهم" أشهرهما: أنه عنى بهم المهاجرين، الذين يستغفرون لإخوانهم من الأنصار. فالكلام -بحسب هذا القول- يقصد منه المهاجرون، الذين هاجروا إلى المدينة، ووجدوا الأنصار فيها عونا وسندا لهم، فقابل المهاجرون هذا الموقف الكريم والنبيل بالدعاء لإخوانهم الأنصار. ويشهد لهذا القول ما رواه الإمام أحمد في “المسند" عن أنس رضي الله عنه، قال: قال المهاجرون: يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم -قدمنا عليهم- أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! فقال صلى الله عليه وسلم: “لا ما أثنيتم عليهم، ودعوتم الله لهم". ورُوي أيضا، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغلظ لرجل من أهل بدر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “وما يدريك يا عمر! لعله قد شهد مشهدا، اطلع الله فيه إلى أهله، فأشهد ملائكته، إني قد رضيت عن عبادي هؤلاء، فليعملوا ما شاءوا"، وكان عمر رضي الله عنه يقول: وإلى أهل بدر تهالك المتهالكون، وهذا الحي من الأنصار، أحسن الله عليهم الثناء. القول الثاني: أنه عنى بهم مَن بعدهم من المسلمين. وهذا مروي عن مجاهد. وبحسب هذا القول، يكون المراد من الآية جميع المسلمين الذين جاؤوا بعد المهاجرين والأنصار. وهم يسألون الله أن يطهر نفوسهم من الغل والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطُوه من فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وما فُضّل به بعضهم من الهجرة، وبعضهم من النصرة، فبين سبحانه للذين جاؤوا من بعدهم، بأن لهم نصيبا من الفضل والأجر، وذلك بالدعاء لمن سبقهم بالمغفرة، وانطواء ضمائرهم على محبتهم، وانتفاء البغض لهم. ويتأيد هذا القول بما روي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: أُمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسببتموهم. سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها". رواه البغوي. وما روي عن قتادة، قال: إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمروا بسببهم. وما روي عن ابن زيد، قال: لا تورث قلوبنا غلا لأحد من أهل دينك. وتتجلى من خلال هذه الآية طبيعة هذه الأمة المسلمة، وصورتها المشرقة في هذا الوجود. تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف، وشعور بصلة القربى العميقة، التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب، وتتفرد وحدها في القلوب، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة، كما يذكر أخاه الذي يشاركه درب الحياة، في إعزاز وكرامة وحب، ويحسب السلف حساب الخلف، ويحترم الخلف مآثر السلف، ويمضي الجميع في قافلة الإيمان صفا واحدا على مدار الزمان واختلاف المكان، تحت راية القرآن صعدا إلى الأفق الكريم، متطلعين إلى رب رؤوف رحيم. وتحمل هذه الآية الكريمة دلالات عدة، نذكر منها: أولاً: يجب أن نعلم جيداً بأن الدار الآخرة هي المكان الأصلي الذي يُطرح فيه الغل والشر من القلوب، ولو أخرجت هذه المشاعر -التي هي من أسس الامتحان- من القلوب في الدنيا، لانقلب الإنسان إلى ملك من الملائكة. بينما خلق الله تعالى الإنسان في هذه الدنيا بماهية قابلة للخير والشر معا. ولو فرضنا أن أُخرجت هذه المشاعر من قلب الإنسان في الدنيا، لنبتت ثانية في القلب، كما ينبت الشعر المزال، لأنها لصيقة بفطرة الإنسان. ولعل هذا السبب هو الذي جعل صيغة الدعاء في التعبير القرآني معبراً عنها بالفعل “ولا تجعل"، بدلاً من التعبير عنها بالفعل (انزع)، ما يعني أن الواجب الملقى على عاتق الإنسان هو التوجه بالدعاء القولي والفعلي لله تعالى، ومحاولة التخلص من هذه المشاعر التي تعد مثل الأشواك المستقرة في القلب. وبهذه الوسيلة يستطيع المؤمن التطهر من المشاعر السيئة، ويكون أهلاً للجنة، ويقبله الله تعالى في عداد عباده المرضين. ثانياً: على المسلم أن يدعو الله على الدوام بألا يجعل في قلبه حقدا وحسدا على أحد من إخوانه المسلمين، فالمسلم لا يكون حقودا ولا حسودا على أحد من الناس، فضلاً عن أن يكون كذلك على أحد من إخوانه المسلمين. وفي حديث طويل رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، فطلع رجل من الأنصار، وقد تكرر ذلك منه ثلاثة أيام، فأراد عبد الله بن عمرو بن العاص أن يقف على السر وراء ما قاله رسول الله صلى الله وسلم في حق هذا الرجل، فطلب منه أن يبيت عنده لبعض الليالي، فلم ير منه شيئاً ذا بال، فسأله عن السر في ذلك، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. والحديث بتمامه رواه أحمد. ثالثاً: في الآية الكريمة رسالة موجهة إلينا وإلى من بعدنا، تطلب منا أن نحب سلفنا الصالح، وأن ندعوا بالخير لهم، وننزلهم المنزلة التي يستحقونها، وألا ننال من أحد منهم من قريب أو بعيد. وبحسب قوله تعالى: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" (التوبة: 71). وقوله سبحانه: “إنما المؤمنون إخوة" (الحجرات: 10)، فإن على الذين تربطهم آصرة الإيمان، وتجمعهم رابطة الإسلام، أن يتحابوا بينهم، ويحترموا من سبقهم، ويغضوا الطرف عمن فرط منهم، وألا يحملوا على الإطلاق أي حقد، أو غل، أو عداء تجاههم. كما أن فيها ما يدعونا إلى تقدير أهل العلم، ورجال الفكر الذين تركوا في حياتنا وفي مشاعرنا وأفكارنا وعقيدتنا أثرا لا يمحى، وميراثا لا يُنسى. رابعاً: ويُستفاد من هذه الآية، أن كل إنسان يسعد -وكذلك يتألم- بنسبة ترقي وسمو مشاعره، ومقدار السعادة والاطمئنان الذي يحس به الإنسان في الجنة يتناسب مع مقدار ترقي وسمو مشاعره في الدنيا. وتأسيساً على هذا يمكن القول: إن الإنسان لكي ينعم في الدنيا أولاً، وينعم في الجنة تالياً، فإن عليه أن يتخلص من مشاعر الحقد والغل والحسد، وغيرها. أخيراً: فما أحوج المسلمين اليوم -وكل يوم- إلى أن يستحضروا مضمون هذه الآية الكريمة، ويعملوا بتوجهياتها، ويهتدوا بهديها، “ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا". هذه هي قافلة الإيمان، وهذا هو دعاء الإيمان، وإنها لقافلة كريمة، وإنه لدعاء كريم. ادعية لمن يحتاج الدعاء - اللهم فرج همنا، ونفس كربنا، واقض عنا ديننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، واهلك أعداءنا. - اللهم اجعلنا يا مولانا من عتقائك من النار ومن المقبولين ومن ورثة جنة النعيم. - ربنا تقبل منا صلاتنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا وصالح أعمالنا واجزنا عنه خير الجزاء، اللهم اجزنا جزاء الصابرين المحسنين. - اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد. - يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أو أقل منها. - أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفي مرضى المسلمين ويشفيني، اللهم لا شفاء إلا شفاؤك، اللهم أنا نسألك شفاء لا يغادر سقما، اذهب البأس رب الناس، اللهم أنا نعوذ بك من عضال الداء وشماتة الأعداء وخيبة الرجاء. - اللهم أكلأنا بعنايتك ورعايتك، وادخلنا في ستورك الحصينة وكفالتك الأمينة. - اللهم أرحمنا فأنت بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر والطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير. - اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم قنا واصرف عنا شر ما قضيت، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.