حين صارت بطاقة هذا العرض في يدي؛ وأنا في زحمة الدخول إلى المسرح الصغير؛ خُيِّل إليّ بأن نتوءات البطاقة النافرة؛ المنتظمة على سطور متوالية؛ تُشبه رقيمات الطين في أوغاريت الفينيقية التي ضمّت أول أبجدية في التاريخ؛ ما أن جلستُ حتى أدركتُ بأنها أبجدية بريل؛ أول ألفباء للعُميان؛ وبأن هذا العرض لهم؛ ويستطيع المُبصرون حضوره ولكن في العتمة؛ حتى لكأنَّ بجاية قد انقطعت عنها الكهرباء؛ وليس في المسرح الصغير.. فقط؛ في ملخص العرض الذي أنتجته فرقة المسرح الجهوي لسيدي بلعباس: «غرفة الأصدقاء.. مكانٌ يختبر الزوّار فيه حياة المكفوف؛ حيث النور غير مسموح به؛ وجميع الممثلين وأفراد الخدمة هم من فاقدي البصر". الكاتب صبين كبير ومعه المخرج الصادق الكبير.. يدخلان في مغامرة مسرحية كبرى؛ ولا شيء هاهنا سوى الصوت البشري للمثلين في العتمة؛ وإيقاع أقدامهم على الخشبة؛ وبعض المؤثرات الصوتية.. والموسيقى بطبيعة الحال. دخلنا إلى مقاعدنا في العتمة أيضا؛ وطلبوا من الجمهور بإصرار إطفاء أجهزة هواتفهم الخليوية؛ وكل إضاءة بما فيها فلاشات آلات التصوير.. فتذكرت بأني ولدت أقرب إلى مدينة شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري في الشمال السوري؛ وتذكرت طه حسين؛ وعُميان بورخيس؛ وجملة لا أتذكر من قالها.. سوى بأنه متصوف أعمى؛ حين رفع يديه باتجاه السماء.. قائلا: - رضيتُ بما قسمته لي من عمى البصر؛ فلا تبتليني يا ربُّ.. بعمى البصيرة. أغلقوا باب الصالة تماما.. منوهين باستحالة الخروج منها خلال العرض الذي يستغرق 55 دقيقة. تردد دعاء المتصوف في داخلي.. طوال العرض وبعده؛ وتساءلت: أليس فقدان البصيرة يعني فقدان القدرة على التخيّل حتى في أكثر الغرف إضاءة؟!. بينما تُحفّز العتمة المبصرين.. فتزداد حاسة السمع تعويضا عن عدم الرؤية؛ وتتحفز المخيلة لتبتكر صورا لما تسمعه؛ وبخاصة إذا أتى على هيئة حكاية أبطالها من حيوانات الغابة.. فحسب. لوهلة.. استطاع العرض أن يضعنا في هذا كله؛ فما أن مضت الدقائق العشر الأولى.. حتى ضاقت المخيلة واتسعت العتمة. لماذا أقول على الدوام: العشر دقائق الأولى؛ واعتبر ما بعدها.. بداية لأي عرض مسرحي / سينمائي... الخ. ذلك لأن أي عرض مسرحي يبدأ بعدها؛ ويكون قد مضى وقت التعارف على شخصياته وفضاءاته؛ وهو ما يُسمى أيضا في مأثورات القوّالين الشعبيين والحكواتية.. بالفَرش؛ حين يمهدون لحكاياتهم بفرش الأرض تحت أقدامنا بعلامات القصّ وأسهم السرد؛ في درب الحكاية حتى لا نتوه عنها في النهايات. إستطالت قصة القرد والسلحفاة البرمائية؛ حتى طغت تفاصيلها غير الجوهرية على جوهر الحكاية ذاتها؛ ولم يكن لتلك دلالة جوهرية تجعلها تُضيء قلوبنا في العتمة؛ بل.. إنها مجرد سرد لغوي من غير حكاية يرتديها وترتديه؛ ولهذا صار الصوت.. عبئاً على البصيرة / المخيلة؛ ولا ألوم هنا الممثلين من المكفوفين؛ لأنهم بذلوا أقصى ما يستطيعون؛ ولكني ألوم على الدوام فقدان البوصلة في ضبط الزمن المسرحي على الركح؛ ماذا لو أن العرض كان في 40 دقيقة فحسب؛ بل إنه يمكن حذف 15 دقيقة دون أن يتأثر بشيء؛ وحتى تربويا.. لا يجوز أن تستطيل مدة الحصة التربوية عن ذلك؛ فكيف.. بالمكفوفين الصغار وفي مطلع المراهقة ممن شاركوا في الأداء؛ وكيف بنا نحن.. حين ستبدأ حواسنا المُستنفرة في غياب البصر بخذلاننا أيضا.لا أدري لماذا لم يستق المؤلفان حكاية من دليلة ودمنة؛ أو.. من التراث الحكائي الشعبي؛ فربما مع حكاية مكتملة سيبدو عرضهما لافتا للنظر بالفعل. بعد العرض.. لم يستطع كل من سألته أن يلخص لي حكاية استمرت 55 دقيقة؛ والسبب ليس فيهم؛ بل.. في الحكاية ذاتها حين تغدو مُجرد هدرٍ.. لا مجاز فيه ولا دلالة. هل أبدو قاسيا.. ربما؛ لكنني حزينٌ لفكرة مبتكرة وإنسانية؛ كان يمكنها أن ترتقي بنا نحو فضاء البصيرة. أشكر بالطبع.. الممثلين: لحوالي محمد، بن صافي محمد أمين، حميدي عبد القادر، بوليلة وردة، بودراع حكيمة، بلفكرون مباركة. والشكر موصولٌ لمساعدة الإخراج: رزين راضية ولمرابط سمير في الموسيقى وللريجسور عباس طويل؛ ولكل الفنيين والتقنيين؛ وبالطبع لكاتبي العرض ومخرجه.