كأنما أراد قدور نعيمي: مؤلفا ومخرجا لهذا العرض، أن يقول أغلب ما في دواخله دفعة واحدة بعد غياب طويل. منذ دخولنا إلى صالة المسرح.. نشاهد على الستارة الخلفية للركح لافتة مُستطيلة تقريبا، حتى تكاد تذكرنا بشاشة عرض سينمائية أو تلفزيونية، وعليها بالفرنسية.. فقط: يحيا الحب، كما قرأتها من غير مترجم، وذاك لأن الحب عابر للغات جميعها، ثم ترجم لي جار بجانبي العبارة الثانية: تحيا الكراهية، وبجانبها شعار النازيين الجدد في أوروبا، ولا أعرف حتى الآن لماذا، أو.. لأية دلالة يشير هذا الصليب المعكوف في خلفية الركح، وبخاصة بعد نهاية عرض جزائري عن الحب! هل تحتاج الكراهية.. إلى ترجمة؟! لا أدري.. ولكني أعلم بأن الحب سيستمر مادامت في الأرض حياة.. ومن ثم نرويه حكاية، أو.. نغنيه ونتغنى به، أو.. نكتبه أدبا، أو.. نحوله إلى مشهدية مسرحية وإلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني. يريد قدور نعيمي أن ينتصر للحب حتى قبل بداية عرضه من خلال اللافتة إياها في خلفية الركح، وأن ينتصر للحمامات البيض في مواجهتهم المزمنة مع الفهود.. وفي حدود معرفتي لا يطارد هذا النوع من الحيوانات المفترسة طيورا مثل الحمام ليفترسها، وهذه هي الرمزية الثانية - بعد شعار النازية - التي لم أفهمها حتى لحظة كتابتي لهذا المقال!. هل استطاع قدور نعيمي نعيمي: كاتبا ومخرجا عبر قصة الحب بين حورية وشفيق، أن يكشف تجليات الحب الاجتماعية والسياسية، حتى لو أنه عاد في أكثر من مشهد إلى تاريخ الثورة الجزائرية، كان أبرزها مشهد تصفية بين الثوار أنفسهم.. لكن والد شفيق/ يستطيع منع هذه التصفية.. بالحنان وحده!، هاهنا.. تذكرت بالتحديد عمي الطاهر وطار رحمه الله، وكيف عالج هذه الإشكالية المؤلمة في تاريخ أغلب الثورات.. وربما قبل الثورة الفرنسية أيضا، وفي غيرها.. حين يقوم أحد بتصفية رفاقه في الثورة ذاتها. قصة الحب تلك.. بين حورية وشفيق وما حولها من استفاضة، أدارها قدورنعيمي إخراجيا، عبر مشاهد بانورامية متوالية، تستقي إيقاعها من السينما، بل.. من إيقاع الدراما التلفزيونية العربية. ومع هذا.. استطال العرض، واتسعت دائرة تلك البانوراما، إلى درجة أنها مسحت على ظاهر اليد بزيت التسامح والحنان والمحبة، دون أن تغوص في قراءة اليد.. ذاتها، بل.. إن الخاتمة التصالحية التي انتهت، كما في نهايات أفلام الميلودراما المصرية والهندية، قد.. قوضت كل ما حاول قدور نعيمي أن ينبشه من قاع النفوس، ويضعه في محرق الضوء، ويتركه مفتوحا على السؤال، من حيث لا تحتمل الدراما أن تجيب هي عن كل سؤال، كما لا تحتمل النهايات التصالحية، الميلودراما تفعل ذلك.. بالتأكيد حين ينتهي الفيلم بزواج الحبيبين!! حتى أن شابا قد همس لرفيقه بينما نغادر القاعة.. متسائلا: - شكون.. هل نحن هكذا فعلا؟! لطالما تذكرت طوال العرض.. السؤال المفتوح لشكسبير في روميو وجولييت عن الكراهية التي تقتل الحب، ومن الصعب أن تتصالح معه!! بجاية.. وغيرها من مدن الجزائر، ليست نابولي أو صقلية.. بالتأكيد، ولم تكن عائلة جولييت كلها.. سيئة، ومن الفهود المفترسين.. كعائلة حورية، كما لم تكن عائلة روميو طيبة وصالحة.. جميعها، ومن الحمامات البيضاء.. كعائلة شفيق، وهي العائلة النادر وجودها.. بهذه المثالية والطيبة والألفة والتسامح والحنان والمحبة.. كيف تستقيم الدراما هكذا.. كما فعل قدور نعيمي في نصيه: المكتوب.. والممسرح، وكما تبدى ذلك على أداء ممثليه بالرغم من جهد بعضهم الذي بذلوه لتغدو شخصياتهم من لحم ودم، لكنها الأفكار حين تقف أمام الشخصيات على الركح لتحجبها ما استطاعت.. عن الجمهور. كما أن نمطية توالي المشاهد.. انتقالا وإطفاء للإضاءة، قد أخذت العرض كله نحو نمطية الأداء، ولم يضف نزول الممثلين بأقنعة الفهود إلى الصالة، أو بالأجنحة البيض للحمامات، سوى أنه ذكرني بمحاولات كسر الجدار الرابع التي طالما استنفذها مسرحنا العربي، وبخاصة.. حين لا تضيف دلالة جمالية أو فكرية إلى العرض ذاته، ويمكن حذف أكثر من مشهد في هذا العرض دون أن يضر ذلك به، بل.. إن الحذف يجعله أكثر كثافة وتماسكا، ويضبط ترهل إيقاعه.. وتلك المشاهد الزائدة أراها في كل عرض وفي كل مهرجان، وليست خاصة.. بما أبدعه قدور نعيمي من حلول إخراجية موفقة في أغلبها، ومن اقتصاد في استخدام الديكور، كما من الدور الأساسي للإضاءة في هذا العرض. لكني.. وبصراحة، خرجت من عرض: الحنان يا ولاد، وكأني قد شاهدت عرضا مسرحيا.. تم إنتاجه قبل خمسة وعشرين عاما من يومنا هذا، و.. بأدوات تلك الأزمنة. أعتذر عن عدم ذكر أي من أسماء الممثلين ومن الفنيين، لأن كراس العرض قد اقتصر على كتابة أسمائهم بالفرنسية فقط.. وتلك مفارقة لا يجدها المشرقي إلا في بلاد المغرب العربي، وهي مشكلة أيضا.. للناطقين بالإنجليزية من ضيوف المهرجان.. ولا يقتصر الأمر على الكراسات وحدها، بل.. حين يخرج العاملون في المهرجان، قبل أي عرض ليذكروا الجمهور بإطفاء أجهزة الموبايل.. وبالفرنسية فقط!!