أعرف نظريا أن الإنسان أكثر قدرة، على التحمل والتلاؤم والصبر الجسدي والنفسي، من أي كائن آخر بما في ذلك الخيول... ساعدني يا الله.. ساعديني يا أمي.. ساعدني أيها الحب، أيها الحزن.. أيها اليأس.. وأنت يا حنان جهنم.. ساعدني.. الشاعر فرج بير قدار، سوري من حمص، اعتقل، عذب، أشبع لكما وانتهاكا ومهانة، السبب ولا سبب غيره، جنحة الرأي والتفكير والكتابة دون استشارة للدوائر الأمنية والمخابرات، اعتقل فرج بير قدار لأنه ينتمي إلى الحزب الشيوعي، وليس ذلك محض مبتغى السلطة، فالتغاير في الفكر والاستئناس بالحكمة والكتابة غير الرسمية المشبعة بتلاوين البلاغة وصنوف المعارف يفضحها - التغاير - هذه السلطة المتوارية خلف سجف الزعاماتية الكاذية والقوموية التي تغتاب في لحم فلسطين خفية وتذهب كل صباح إلى مطار دمشق لاستقبال رموز القضية وأشياع الفصائل.. إن فرج بير قدار الذي قضّى عقوبة العسف والإكراه، كل الإكراهات مشمولة طيلة أربع عشرة سنة عذابا ومظلمة وتنكيلا بدا كأنه يهذي وهو الشاعر، يبكي كأنه في النشيد الأخير، متصدع النفس والفؤاد كأنها صلاة أخيرة.. إنه كتابه البوحي، البالغ في التأثير وشدّ المهج، هو وحده من الأشغال الشاقة التي يمارسها شاعر كاتب، إذ ممنوع عليه أن يتنفس من حبره وممنوع على حبره أن يتنفس من الكلمات وممنوع على حبره أن يتنفس من الكلمات وممنوع على الكلمات أن تقول شعرا ونثرا، نظما وديوانا، بيانا وسجعا، لكن السيرة السجنية هذه المعنونة ب “خيانات اللغة والصمت، تغريبتي في سجون المخابرات السورية" تحفل بكل هذا وأكثره، كتابة سجنية، متوزعة على أرخبيلات وجزر، بحار ومرجان، تضاريس وجغرافيات، كتابة من الدواخل المقهورة والنضال النفسي والتمرين على المصابرة، بها لمحة من الفلسفة، ولمحة أخرى من الإشراق الصوفي، ولمحة ثالثة ورابعة من الكشوفات الكونية لعالم يضيق في المساحة ثم يهوي بها في فراغات التحديق، ما أحلاه التحديق في الحرية، ما أحلاه تسريب نور هذا العالم إلى الهناك المسجون، في يومه المغدور، في شعاراته المتلفزة وعليها صور الزعيم وطقوسه المقرفة المكرورة، في أنباء السقاطة ونعي القضية والتجارة مع الشهادة والشهيد وحيث الناس غير المسجونة لا زالت تصدّق، تصدّق الكلام المنمق وإذاعات غوبلز والخطابات المفتونة عن تحرير كل شبر، عن الممانعة من أجل فلسطين، عن الرد بيد من حديد لمن تسوّل له نفسه التجديف في حق الذات الإلهية للحاكم.. هي هكذا التغريبة، شعر ونثر وسرب طيور هائمة في سماوات الحرية ومرابعها، خيال السجين إذ يحرر الذات من أعطابها واختلالاتها، خيال السجين إذ يمد نظره إلى أفق تصدح فيه الشمس، خيال السجين إذ يعانق الجبل والهضبة وسواهما.. أليس في هذا النص فعلا، خلاص، لغة خلاص، ترنيمة وأغنية امتدت وعمّرت الصحائف وفيها الصحائف.. لا أمس، ولا هناك.. ثلاثة أسئلة واحدة.. البرزخ.. على شفا بصيرة.. إلى الشرق.. دوائر ذات شهيق متصل.. تدمريات.. ما فوق سريالية.. ستة عشر يوما في الجمر.. حمامتان.. وقمر.. وثلج أيضا.. أب.. إلى حد البكاء.. مقام خمر.. قابلية مجنونة للعدوى.. أغلى حلم في العالم.. كروكيات بالحبر السري.. ظلال أبجدية لجرح مفتوح.. كأس.. بقية الكأس وسؤال أخير.. إنها سبعة عشر، عليها سبعة عشر هذه التغريبة السورية الممحونة، شعر وحكاية، بنبض داخلي واعتصارات، أنت أيها الحر الطليق - خارج أسوار سجنك - لن يمكنك أن تكتب هذا، أن تشعر، أن تسرّ، أن يسري إليك ويعرج نحوك بكل هذا النثر الماحق الذي يكتبه مسجون مرجف أعزل إلا من حبره المسروق وقصاصات ورق السجائر الذي عمده فرج بير قدار وكتب عليه كل هذه التمائم والتعازيم حتى يقيه الله شر الأسد والأسود.. في النكتة العربية الفصيحة المدموغة بدمغة الحرية أن مدرسا للغة العربية زجّ به في سجن حافظ الأسد لأنه ضرب مثالا في الإعراب فحواه “اشترى لي أبي حذاءً فحافظت عليه" فاعتبرت عند السلطات رمزية الحذاء طعنا في وجهه الكريم، وجه حافظ الذي لا يفنى.. عليها سبعة عشر هذه الترجيعة، هذا الوجع السجني ومن الهذيان المسموح المفضي إلى تراتيب الجمل السخية الصحيحة أن يترابط الحلم وكوابيسه، الترحالات الوعرة من فروع الأمن إلى سجن تدمر الصحراوي إلى سجن صيدنايا العسكري، وهناك حيث يبشر الكتاب بالنصوص الفضية وعصارة المبنى والمعنى، كتاب وكتاب وكتاب، صحافة ورسامي كاركاتور، أطباء أسنان ومهندسي ديكور، مصورين يافعين، ومدربي كمبيوترات رهيفة الصنع، عجزة متقاعدين ونساء ذوات نهود، كل هؤلاء، ولكل هؤلاء نص وحكاية وخطاب وفصل، وها هو فرج بير قدار يقول لنا، يا ناس، هذا ما تبقى من أنقاض روحي، وأنقاض مئات المعتقلين السياسيين الشرفاء، إنه شهيقي وزفيري وما يترمّد بينهما، الماضي وأحلام المستقبل.. لغة بير قدار مشحونة مبلولة، لاهثة لهاث الحرية، لكنها على تهكم وهزء من سوء الطالع وشؤم الحال، يضمن ذلك ترك العقل وأضاليله، ففي العقل يسكن اليأس ومنه يموت الضمير وتبلى الذمم إشارة منه إلى واقع السجناء الآخرين الذين تلتف حول أعناقهم أذرع السلطة الحانية فيبيعون المقابلة الثورية بثمن بخس دراهم معدودات، وليس منهم فرج بير قدار، فالنص مفعم الروح، كامل الدسم بالخاطر والهناءات وسلامة الطوية، أدنى صلح للطاغية لا، أدنى إرادة لمجالسة السجان لا، أدنى طمع في زهورات وقرفة ويانسون من “الهؤلاء" لا، لهم الزمامير والكلبشات الإسبانية، لهم الضحك المعتوه، الرقص الرخيص لهم ولهم الرصاص بملء الحقد جاهز لقطف الرأس والعقل والجمال.. يفكك بير قدار الشيفرة السرية للسجن العربي، لغته، آلة اشتغاله، أساليبه، خطابه، منتوجه - هذا السجن - العاملون عليه - حماته وحماة فلسطين، وهي منظومة ندر عند الكاتب العربي الإنهمام بها وكتابتها على المنحى التفكيكي، الإجرائي، لا الوصفي، وبير قدار لا تعوزه مقدرة ولا تختلط عليه رؤية أو رؤيا، وهي تشكل بادئ المساهمة في التأريخ للسجن السياسي العربي وقولبته أدبيا وجماليا وياما هي كثيرة السجون ومراكز الإعتقال، نوادي التعذيب ومعازل العقاب “صيدنايا وسجن تدمر العسكري، السجن الحربي وليمان طرة وأبو زعبل، درب مولاي الشريف، المونتي فيردي، لامبيز في فترته الذهبية أثناء الثمانينات.. قلت إن فرج بير قدار يكتب أمثولة سجنية ونصا في الاعتقال، وهي كتابة فيها الداخل وما في الداخل كما فيها الخارج وما في الخارج، صدمة المباغتة، استحالة الهرب، التفتيش، التحقيق، التأشير على الورق الموجود مكتوبا بحوزة المعتقل، خيانات الكوادر، الترغيب والاستمالة، التعذيب وعذاباته كما في طرائقه المجنونة التي تستعملهل واستعملتها السلطات العربية.. ينتمي هذا الصنف إلى صنفه، أدب السجون، لكن فيه الشعر ورنين البيان، الخلق الروائي وجمال الكلم، الحوار والمونولوغ والمسرح الصغير، التراجيديا والسيزيفيه، نص في شقاء البشر وهم يرزحون تحت صبابيط الطغاة الآثمين وكلابهم الجائعة إلى النهش.. عالم السجن هو عالم المحو والنفي والاستئصال، حتى الاسم والكنية يبدوان من ثانوية الأشياء فأول ما تلحق بالسجن يسحق اسمك كيما تصير، الحكيم، أبو نصير، أبو لسان، أبو حمص، أبو فول، أبو شوكة، حسب الشبه والصفة، حسب الهواية والشعور، حسب الرغبة الدفينة والباطن وحسب أي شيء، لتتألف قلوب المسجونين ومواجدهم، رفقات ومواعيد، تضامنات وعداءات، سخرية ومزح فيما بينهم وضد سجانيهم العديمي الأخلاق والنبالة.. إن هذا النص التغريبي يبقى دوام الصلة بالسجن بوصفه قارة الحرية ومسكن الكتابة، نص ذكي ترجم صاحبه من الداخل، يقرأ السجن قراءات متعددة، غير أن قراء المرجعية الوحيدة التي لها المشروعية والنفاذ هي الحرية، التمرين الأقصى على الحياة، ولذلك اقتدر هذا المسجون في كتابه بفصوله السبعة عشر كأنها الإغراء المحرض على اقتلاع بؤبؤ وأعين جلادي العرب، بالكلمة، الكلمة وحدها.. السجن زمن حجري عاطل وغير أخلاقي قال الشاعر، أما الحرية فهي، أول الفرح، الفرح الأخير، الأخير، الأخير..