تبغي هذه المحاولة الاقتراب من البعد الزماني والمكاني للرواية. وسياقها التاريخي. والتركيبة البشرية ووظائفها الاجتماعية. ودلالاتها السوسيولوجية. والطقوس والرموز والاحتفاليات . في البدء: أوجه امتنانا إلى أستاذي وصديقي الأستاذ عبد الرحمن الضب الذي منحني فرصة التعرّف على كاتب من الجواهر الموضوعة، ينحت كلماته لا يهمه كيف يتلقاها الآخر بقدر ما يهمه أنها في صورتها النهائية كما أرادها هو؛ لكون تعافى من إرضاء الآخر في صورته الجماعية. واستعاد ذاته وذاكرته وحواسه وقناعاته. تحرر ليكتب تحفته “تلك المحبة". أتذكر الروائي الحبيب السائح منذ حوالي عشر سنوات في جامعة أدرار يوم قدّم روايته “ تماسخت". حينها كان يهز رأسه، واثقا من نفسه، وهو يعلن عن ميلاد الرواية اللاحقة “تلك المحبة". قال: “ستفاجئكم تلك المحبة بمحتواها. ستتعرفون على أدرار من مداخل أخرى. ستقرأون عن أشياء أنتم أنفسكم أهل أدرار لا تعرفونها". تلقيت هذه الكلمات المتحدية وانتظرت أن أحصل على الرواية. كنت من الأوائل الذين قرأوها. كانت القراءة الأولية ترويضا لنفسي عن تقبل العبارات النيئة، ذات المادة خام، الصادمة في جرأتها الرائعة الدلالة. وجدت أن صاحب المصنف لا ينشغل بما يصيب شعورك أو ذوقك. كأنه يقول لك: هذه، هي! إن كنت تريد القراءة فمرحبا وإن عزفت فما “أحلى فراقك." حينها، تأكدت أن الروائي الحبيب السائح لا يبحث عن قارئ وكفى، بل هو يبحث عن مغامر يمارس يوغا القراءة. عليه أن يتجلد بالصبر. إنه أمر مطلوب أيضا في نصوص “زهوة" و«ذاك الحنين". أذكر هنا أني لما كنت أعرض “تلك المحبة" على بعض الطلبة في الجامعة لقراءتها، مغرية إياهم بأنها نص عن أدرار، يرجعون في اليوم الثاني ويعيدونها. سألتني إحدى الطالبات مرة إن كان الحبيب السائح يكتب بالزناتية؟أتفهم اللسعة الأولى التي تحصل لك وأنت تحاول أن تقرأ “تلك المحبة". إنه نص يجبرك على البحث في أكثر من كتاب لفهم خطاباته. إنها رواية تحيلك على كتب التاريخ والجغرافيا ومسيرة التبشير بالصحراء كمرحلة ثانية للاستعمار المخطط. وتغوص بك في الزمن لتتعرف على المبادلات التجارية مع دول الساحل ومن بينها جلب العبيد وتوظيفهم في الحياة اليومية والاجتماعية والمادية. كما تدفعك إلى استقراء الذاكرة الشعبية وذاكرة من سبقوك. وتعرض لك حكايات الجدات الشعبية والأحداث المتواترة شفويا؛ منها قصة صلاة اليهودي الجنب كإمام لحين من الزمن، التي وظفها الروائي في كشاهد على الحياة اليومية في فترة تاريخية من يوميات تمنطيط. البعد الزمني للرواية: حسب فهمي، يصعب القبض على حدوده داخل “تلك المحبة". ففي ص 13 تتحدث أدرار عن ميلادها منذ بدء التكوين مع الدفقة الأولى للحياة بإشارة للحمامة، حمامة نوح، ص 14. يبدو هذا الزمن المتخيل دون تقويم محدد. ما استطعت أن أتلمسه، كبداية لأحد الحدود، هو الإشارة إلى سقوط غرناطة ص 28؛ أي القرن 15م وإلى نزوح المسلمين واليهود ومحاكم التفتيش، إضافة إلى حدود أخرى في ص 30. يسحب على الزمن الأحداث والمواقف كقضية إجلاء اليهود المثارة ما بين الشيخ المغيلي والقاضي العصنوني. وإرساليات التبشير. ودور “الأب دوفوكو" في الصحراء. ودخول الاستعمار. وإشكالية المقاومة من عدمها. وتفجيرات رقان، التي فيها تعرض لها الحبيب السائح روائيا قبل “مالو سيلفا" في رواية “رقان حبيبتي". غير أن الزمن يتواصل سحبه على الأحداث إلى غاية يوم الناس، بالتطرق إلى زمن الفساد الذي طال محاولات الإصلاح السياسية والاجتماعية والتنموية. السياق التاريخي: لم يلتزم الكاتب بسياق خطي يسحب عليه الأحداث. فهو حينا يذهب بك أماما إلى المستقبل. وحينا يعيدك إلى أغوار التاريخ. وأحيانا أخرى يقدم لك السياق مطلقا. التركيبة البشرية: اعتمد الروائي التقسيم الاجتماعي المحلي؛ إذ لا هو بتقسيم عرقي ولا ديني ولا إثني. تقسيم ممارس، وصف اعتمادا غالبا على مصدر شعبي، لأنه قد يتغير بحسب رتبة المصدر من التقسيم نفسه.الشرفاء: سكة الذهب. الزوا: لأبي بكر، كما يقال محليا، بالإضافة إلى العرب، نسبة لعروبة خير البشر. نلاحظ في الترتيب خيرية الصحبة على الانتماء العرقي وهما معا: سكة الفضة. فرسان الدين المرابطين والبربر: النحاس. العبيد والحرثانيين: الحديد. إنه، في الواقع، تقسيم طبقي. معادلته بالترتيب المعدني. إن الروائي بإشارته إلى بلال ونجاشي الحبشة يختم بتساوي البشر؛ إذ كلهم لآدم ولله يصيرون أجمعين. غير أن هناك في الرواية إشارات إلى أن النسيج البشري يختلط خلسة عن الضوابط العرفية والعقائدية. مثال ذلك “بليلو" ابن السيد والأمة. تعرض الرواية التركيبة البشرية في ص 365 عند دخول كل مجموعة من باب خاص بها من الأبواب الأربعة المفتوحة على مشهد صغير للحشر حيث يعترف فيه كل واحد بما اقترفت حواسه. أحداث “تلك المحبة" إعادة لإنتاج الواقع الجغرافي والتاريخي والبشري. فشخوص الرواية عاشت وتعايشت مع الواقع المعاد ترتيبه حتى في الجلسات العادية “كقعدة العيش"؛ إحدى الجلسات التي لها طقوسها ومنها وظيفة “سمّار اللحم" ومكانته الاجتماعية، في إشارة من الكاتب إلى أن المجتمع الأدراري محافظ على تراتبيته حتى في أبسط الجلسات.بالمناسبة، أضيف للروائي إنه بالإمكان أن نلاحظ هذه التراتبية حتى في نوعية أجزاء اللحم ولمن تعطى. إنه تقسيم خاضع لطبيعة الجنس امرأة/رجل؛ فهناك أجزاء مميزة تعطى لجلسة الرجال دون النساء، كما تعطى للنفساء، التي تلد ذكرا، أكلها الخاص؛ عكس أخرى تلد أنثى فتعطى “عيش" الشعير ولحم الرأس. نماذج للمرأة ودلالاتها الاجتماعية في “تلك المحبة" تتداخل عليك المرأة الرمز والمرأة البشر؛ فالمرأة الرمز كانت أدرار بامتياز؛ تبسط غوايتها على الكاتب بلا منازع. يصفها وصف الهائم في عدة مواقع من الرواية، بنخلها وعجاجها وأيام شمسها الطويلة، وصفا عجيبا، كما في فصل “خطي بشفتيك على صدري صبر النخيل" ص 15، فتحتار كيف اختار له الروائي تلك الدلالات. وفي ص 25 تأخذ المرأة معالم النخلة ذات القدم في الماء والرأس في النار، بصبرها وعطائها اللامتناهي. أما المرأة البشر فهي حاضرة في النص، بحسب التراتبية الاجتماعية؛ فللعرافات وأمثالهن ترتيب ووظائف ومهام أحيانا قذرة. ولنساء المجتمع المخملي ترتيبهن الخاص وممارساتهن العلنية والخفية. يعرض ذلك بغرائبية سردية تعلي من قيمة المرأة المكان والمرأة البشر. نماذج للرجل ودلالاته الاجتماعية إنهم رجال يتنبت الصبر من أنفاسهم. بناة الحضارة المادية، من بين معالمها الفقارات. إنهم الخلاسيون، كما يصفهم الكاتب. ورجال الدين والقضاء. وشخصيات أخرى ظاهرها يبعث على الهيبة والاحترام وخفيها الرذيلة. ورجال الحرب والتاريخ: الشيخ المغيلي. القاضي العصنوني، والمبشر المسيحي الأدب دو فوكو، الذي أصيب بإحباط، لما لم يستطع رد الطفل امبارك، المسلم بالنشأة، إلى المسيحية. إنه موقف يشبه كثيرا حال مستر سعيد في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال" وعند الحبيب السائح مواسم الهجرة إلى الجنوب ، الذي خاطبه البريطانيون: “أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا في إفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلنها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة". الطقوس والرموز. مشهد الرابطة هو مشهد احتفالي يعرضه الروائي عند دخول المرأة حال العدة إلى غاية انتهاء أيامها. مع الاحتفاظ باللون الأبيض كدلالة على الحزن والفرح معا. وفيه يحتفظ الروائي بالأسماء كما في أصلها: المشاڤة؛ وهوما يلتصق من شعر بالمشط، القوس. الزقاق.. وفي مشاهد أخرى من الرواية: الماجن. قمح بالمبروك. الدمان. اغوسرو. القصري... تتم طقوس لْوَاح الرابطة (نهاية العدة) من بداية النهار إلى آخر ليعلن تحرر المرأة من التزامها الشرعي. يعرض الروائي خروج المعتدة إلى حفرة الخزن ودفن كل ما كانت تلبسه طوال العدة مع أحزانها. كما يعرض أنواع الأكل والفئة الموجه لها. لا يمكنني هنا أن أجاري الكاتب في تعابيره، لأنها لاذعة. قرأتها وكأن بين أضراسي حبات رمل. أذكر هنا أن شخصية “نجمة" الحبيب السائح الرابطة امرأة جسور ذات مقدرة على القتل ولها الشغف الاستعراضي تدير الأشخاص بمكر الذئاب وحريرية الأنثى، لنفوذها بفعل مالها وأعمالها. ورغم ذلك التزمت، خلال العدة، بأداء الطقس الديني حتى وإن كانت ممارساتنا اليومية تخترقه. نجمة شخصية ذات أبعاد نفسية معقدة. جلسة الطبلات ومشاهد الحياة الثقافية عديدة في الرواية منه ما هو ديني، كمشاهد الأسبوع بتيميمون، واجتماعي كالأعراس والاحتفاء أثناءها بشعر الشلالي. فجلسات الطبلات، مثلا، يعرضها الكاتب بتفاصيلها وكأنه جالس معهن حد الاستغراب. إن شخصية “سلو" الاستثنائية كانت، في ذلك، عين الكاتب على تلك الجلسات ودليله إلى الممارسات الأخرى. شخصية متصالحة مع نفسها، شاهدة على من يعيشون ازدواجية مقيتة. ص 69 و 70 وما يليهما. جلسة التنفيحات يعرض الروائي جانبا من جلسات التنفيحة المنتشرة، التي يتناقلها ويعرفها ويتبادلها ممارسوها فيما بينهم، خلسة من الرقابة الاجتماعية الدينية والقانونية، ص 78 و80، بوصف دقيق لطقوسها وأدواتها وطرق تحضيرها بحميمية لا تحظى بها الأنثى. يظهر الكاتب ذلك من خلال شخصية “بليلو"، ابن السيد والأمة، الممتاز، مثل “سلو" بمقدرة عالية على الكتمان وكشف المستور. مقدرة تمسك بالرقاب. فالكاتب إذ يصور مشهد تراجع زوج الأمة لأنه وجد نعل سيده لدى الباب إشارة على أنه يواقعها، يضعك أمام إحدى الصور الإنسانية الاستغلالية الأشد شعورا بالقهر، ص 89. لذلك كله، بالإمكان القول إن “ تلك المحبة" نص أنتروبولوجي، أيضا.