في تتابع الأيام والأعوام آية وعبرة لكل معتبر: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} (الفرقان). والحق أن كل يوم يمضي يقرب الإنسان من أجله، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة كلما مضى يوم مضى بعضك. وهذه الأيام التي نقطعها لا تعود إلى يوم القيامة، كما قال الحسن البصري رحمه الله: ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: ابن آدم: أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة. ثم إن هذه الأيام هي خزائن الأعمال، وستفتح بين يدي من لا تخفى عليه خافية: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)}( آل عمران)، ويقول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (الزلزلة). وإذا كان الأمر كذلك فحري بالعبد أن يحاسب نفسه الآن قبل فوات الأوان، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية. وربنا تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر: 18، 19). قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، واعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية). ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإذا كان العبد مسؤولا ومحاسبا على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (الإسراء) فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب). صور مشرقة من محاسبة الصالحين ومراجعتهم لأنفسهم إذا نظرنا إلى أحوال الصالحين لوجدنا عجبا، حيث كانوا أشد محاسبة لأنفسهم من الشريك الشحيح لشريكه. أبو بكرالصّدِّيق يحاسب نفسه، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدخل عليه عمر فيراه ممسكا بلسانه يشده ويضغط عليه وهو يقول: هذا الذي أوردني الموارد. سبحان الله يفعل ذلك وهو الذي اجتمعت فيه خصال في يوم لم تجتمع في عبد إلا دخل الجنة، بل هو الذي يدعى من أبواب الجنة كلها. أما عمر الفاروق رضي الله عنه فشأنه في محاسبة نفسه عجيب وعظيم، يدخل يوما بستانا يخلو فيه بنفسه فيقول لنفسه: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ (كلمة استحسان) والله لتتقين الله أو ليعذبنك. ويأتيه يوما رجل يشكو له وعمر مشغول بأمر من أمور المسلمين فقال للرجل: تتركون الخليفة حين يكون فارغا حتى إذا شغل بأمر المسلمين أتيتموه؟ ثم ضربه بالدرة، فانصرف الرجل حزينا، وتذكر عمر أنه ظلم الرجل فدعاه فأعطاه الدرة وقال له: اضربني كما ضربتك، فأبى الرجل وقال: بل أتركها لله ولك، فقال عمر: إما أن تتركها لله وحده، وإما أن تأخذ حقك، فقال الرجل: أتركها لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: إيه يا ابن الخطاب: كنت وضيعا فرفعك الله، وضالا فهداك الله، وضعيفا فأعزك الله وجعلك خليفة فأتى رجل يستعين بك على دفع الظلم فظلمته، ما تقول لربك غدا إذا اتيته؟ وظل هكذا حتى أشفقوا عليه رضي الله عنه وأرضاه. أما الأحنف بن قيس رضي الله عنه، ذلك الرجل الذي قالوا عنه: ما رأينا أحدا أعظم سلطانا على نفسه من الأحنف بن قيس، فإنه كان شديد المحاسبة لنفسه، كان يقرب يده من المصباح فإذا استشعر حرارته قال لنفسه: يا حُنيف (يصغر نفسه) ما حملك على ما صنعت يوم كذا ويوم كذا؟. عمر بن عبد العزيز يحاسب نفسه فعن عطاء قال: دخلتُ على فاطمة بنت عبد الملك بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، فقلت لها: يا بنت عبد الملك، أخبريني عن أمير المؤمنين، قالت: أفعل، ولو كان حيّاً ما فعلت!. إن عمر رحمه الله، كان قد فرغ نفسه وبدنه للناس، كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقية من حوائج يومه وصله بليله، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان يسرج له من ماله، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقعى (أي استند) واضعاً رأسه على يده تتسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزل كذلك ليلته حتى برق له الصبح، ثم أصبح صائماً، قالت: فدنوت منه. فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت شيئا منك البارحة ما رأيته قبل ذلك، فما كان منك قال: أجل، فدعيني وشأني وعليك بشأنك، قالت: فقلت له: إني أرجو أن أتعظ، قال: إذن أخبرك، إني نظرت إليّ فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود وأشباههم في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلني عنهم، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت ألا يثبت لي عند الله عذرا، ولا يقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؛ فخفت على نفسي خوفاً دمعت له عيناي، ووجل له قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكراً ازددت لهذا وجلاً، وقد أخبرتك فاتعظي الآن أو دعي. علام يحاسب العبد نفسه؟ أولاً: البدء بالفرائض، هل أداها على الوجه المطلوب؟ وهل كانت خالصة لله تعالى أم شابها شوائب الرياء والسمعة؟ فإذا رأى فيها نقصاً أو تقصيرا تداركه بإصلاح وسد النقص، وجاهد نفسه على تخليصها من شوائب الرياء والسمعة. ثانياً: النواهي التي نهى الله عنها كالربا والزنا وشرب الخمر وقطيعة الرحم والغيبة والنميمة... إلخ، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات الماحية من نوافل الصلوات والصدقة وغير ذلك. ثالثاً: محاسبة النفس على الغفلة ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله وتلاوة القرآن والمحافظة على الأذكار الراتبة كأذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ وغيرها، وكذلك الأذكار المطلقة التي لا تتقيد بوقت ولا بعدد. رابعاً: محاسبة النفس على حركات الجوارح، من كلام اللسان، ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، ماذا فعلت؟ وهل هو مباح أم حرام؟ وماذا أراد بهذا؟ ولمن فعله. فإن كانت الإجابة ترضي الله تعالى فبها ونعمت، وإن كانت غير ذلك توقف وأصلح وأعد للسؤال بين يدي الله تعالى جوابا. ونختم بقول الحسن البصري رحمه الله تعالى إذ يقول: المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. نسأل الله أن يوفقنا والمسلمين لكل خير، صلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين. ليسوا سواء مما امتاز به دين الإسلام إعطاء كل ذي حقه، والاعتراف للآخرين بما هم عليه من خير، وعدم بخس الناس أشياءهم، فالحق حق والباطل باطل، والحكم على الناس إنما يكون بحسب الظاهر من أعمالهم، والله وحده هو الذي يتولى السرائر. ومن الآيات التي تبين هذا المبدأ الإسلامي قوله تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} (آل عمران: 113)، فقد جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن أهل الكتاب، وبيان أن أهل الكتاب: {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران: 110). ووقفتنا الرئيسة في هذه السطور عند قوله سبحانه: {ليسوا سواء}. ذكر المفسرون قولين في المراد من قوله سبحانه: {ليسوا سواء}: الأول: أن أهل الكتاب ليسوا سواء في موقفهم من الإسلام، فبعضهم مؤمن به، مستسلم لما جاء به، وبعضهم معرض عنه، رافض لما جاء به، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا، وصدقوا، ورغبوا في الإسلام، ورسخوا فيه، قالت: أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد، ولا تبعه إلا أشرارنا! ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله {ليسوا سواء}. وروي عن قتادة، قال: {ليسوا سواء}: ليس كل القوم هلكى، قد كان لله فيهم بقية. وأكثر المفسرين على هذا القول في المراد من الآية، وأن المراد أن أهل الكتاب ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم الفاسق. وبحسب هذا القول تكون الآية تقريراً لما تقدم من قوله سبحانه: {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}. وقد رجح الطبري هذا القول في المراد من الآية، ورأى أن القصة تمت عند قوله: {ليسوا سواء}، وأن ما بعده كلام مستأنف جديد، يخبر فيه سبحانه عن أمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم، وأن قوله: {من أهل الكتاب أمة قائمة}، مَدْحٌ لمؤمني أهل الكتاب، ووَصْفٌ لهم بصفتهم. ومال ابن كثير إلى هذا القول في المراد من الآية، وقال: هذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلاً، كما وُجِدَ في عبد الله بن سلام، وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود، ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم مهتدون، وينقادون للحق. الثاني: أن المسلمين وأهل الكتاب ليسوا سواء. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول في قوله: {ليسوا سواء}، قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وبحسب هذا القول، يكون قوله تعالى: {ليسوا سواء} كلاماً غير تام، ولا يجوز الوقف عنده، بل هو متعلق بما بعده، والتقدير: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة محمودة، وأمة مذمومة. وقد مال إلى هذا القول من المفسرين الإمام القرطبي، فقال: المعنى: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء. وروى خبر ابن مسعود رضي الله المتقدم في معنى الآية. واعتبر أبو حيان أن هذا القول هو خلاف ظاهر الآية؛ وذلك أن سياق الآية إنما هو في أهل الكتاب، وبالتالي فلا داعي لإقحام المؤمنين هنا، وقد أيد الشيخ رشيد رضا هذا المنحى. والمهم هنا الانتباه إلى المبدأ الذي قررته الآية الكريمة، وهو مبدأ: {ليسوا سواء}، فهذا المبدأ ينبغي أن يكون هو عنوان التعامل الفكري والفعلي مع غير المسلمين، ينطلق من قاعدة {ليسوا سواء}، سواء كانوا أحزاباً وجماعات، أو فرقاً وطوائف، أو مذاهب وتيارات؟ فالناس مختلفون في العقليات والأفهام والطبائع والأمزجة، ومستوياتهم متباينة، ومن ثم فإن كل إنسان مسؤول عن نفسه، كما قال تعالى: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} (النجم: 38)، وبالتالي، فلا ينبغي التسوية بين الجميع. ولا يليق الحكم على الجميع بذات الحكم.