لم يكن للشاعر العربي يومًا قيمة مقدسة، تصمد ادعاءاتها أمام التساؤلات الحقيقية الجادة، على مدى تاريخ الشعر العربي، وهذا على نقيض ما يُشاع تماما في البيداغوجيات والتأريخات الأدبية العربية الفانتازية. الأصل الشعائري - السياسي: إن الحقيقة هي الطريق إليها، وإن كانت مُعبدة بالحيرة والريب. كما أن الجمال هو عينه التفكير فيه، ولو داخل النفوس الواهنة المشوّشة السقيمة، ذلك أن كثيرا من الآراء القطعية المنطقية المُقنعة، التي تُطلق في ما يتعلق بالحكم على الجمال، ماهي إلا تزويرات بارعة، لا تعدو أن تكون تلفيقات ذات أصول غاية في القبح والبشاعة. الشيء نفسه يتعلق بالشعر العربي أيام نشأته، فلئن امتلأت كتبنا المدرسية، وفاضت بذلكم الكم الهائل من الأكاذيب، التي زمّرت وطبّلت لأكذوبة قداسة الشعر والشاعر، فإن ذلك في الراجح (بحسب رأيي طبعا)، ما هو سوى سوء فهم لحقيقة قدر الشعر عند العرب، وغير تمدد وتغلغلٍ لتلك الجذور التفكيرية المارقة، المجانبة للصواب، والتي نَمت بعيدا عن أرضها وسمائها، إنها جذورٌ لم تعرف الترابَ يوما، فضلاً عن أن تكون عميقة. لم يكن للشاعر العربي يومًا قيمة مقدسة، تصمد ادعاءاتها أمام التساؤلات الحقيقية الجادة، على مدى تاريخ الشعر العربي، وهذا على نقيض ما يُشاع تماما في البيداغوجيات والتأريخات الأدبية العربية الفانتازية. يمكنني الآن، بداية، أن أعدد الكثير من الشعراء الجاهليين، الذين نُعتوا بالكبار، والذين سُفّهوا، و قتّلوا، وطوردوا، وهُجّرُوا، ونكل بهم، ومع ذلك صدرت أحكام قيمية في حقهم، من جهات مشبوهة معاصرة لهم، جهات كانت السبب في كل ما لحق بهم من أذى، تضمنت الرفع الصريح من مكانتهم، ومن قدر الشعر، وهذا أمر يدعو للريبة. إن الشاعر لم يكن المقصود بالتقديس المشاع عن منزلته، وكل ما ظهر مؤيدا إشاعة قداسة الشاعر هذه، إنما هو لعب على العقول، ومحض مِنحة مشكوك في أسباب إعطائها... وُهبت لتوريط الأحكام القيمية المتعلقة بالشاعر وتضليلها، عَطِيَّة قدمتها السلطات السياسية والدينية قديما، لأجل أن تُصدَّق كذبتها، السلطات العليا التي كانت تقدم شاعرا دون آخر، ينتمي لقبيلة دون أخرى، ولأسباب ومعايير تبقى مجهولة إلى يوم الناس هذا. القداسة إذاً هي الحبل السري، الذي سيوصلنا إلى الرحم التي خرج الشعر منها. ولكن أي قداسة؟ وكيف انصبغت بها ماهية الشعر والشعراء؟ لقد كان الشاعر في نظر السلطات العليا، السياسية والدينية في العصر الجاهلي (البُطولي)، مجرد (مُتحدثٍ بالنيابة) لا غير، فقد خُول له الكلام بدلا عن غيره، من السادة الأشراف المترفعين عن شبهة الثرثرة، وعن معرة قصدِ القول، أولئك المنشغلون، المتصدون للقضايا المصيرية الكبرى لأقوامهم، فإن أحسن الشاعر فلهم الحمدُ لا له، وإن أساء فعليهِ وحده جزاء سيئة الإساءة، ووزر طول اللسان. إن صفة المقدس، هي صفة دينية طقوسية، سمةٌ ألصقها المتأخرون من روّاد الشعر به، وبالشاعر، بعد أن انتهت صلاحيته الأولى، وانقطع حبل التاريخ، الدال على أوجه الحقيقة، بعد أن نفد حبر التنشئة الشعرية، وطويت صُحفها، وانصرف منفذوها، كل إلى شأنه، والتاريخ مثل شجرة مثمرة، إنه لا يُطعم إلا كاتبيه ومدبريه، شجرةٌ تيبس وتهرم في يد طالبي أُكلها من غير غارسيها وساقييها ورُعاتها، حتى لا يعود يَعنيها بعد ذلك، مما قد تنعت به من المدائح أو من المذمات من شيء. غير صحيح على الإطلاق أن كلمة شعر مشتقٌة من: شَعَرَ يَشعُر شُعورا، أجزم أن الشِعر مشتق من: شعيرة وشعائر، ومن عشيرة وعشائر. يمكننا العودة إلى أصل كلمة شعر، إنها كلمة سريالية sir وهي تعني الإنشاد، الذي يحيلنا وجها إلى القيمة الدينية الطقوسية، إلى نشيد الإنشاد في التوراة، وإلى طقوس القُداس المسيحي الإنشادية. إن وزارة الشؤون الوثنية لقريش ما قبل الإسلام، هي التي هيأت لإخراج الشعر الجاهلي، كل شيء جُهّز تحت الطلب، وبمواصفات شعائرية دينية تم اشتراطها مُسبقا على الشعراء، الذين كانوا شخصيات مغمورةٍ، لا وجود فعلي لها، قبل ذلك، حالهم حال شُهرة الشِعر، حدث ذلك (في رأيي) على إثر احتدام التنافس الدينيّ، في منطقة شبه الجزيرة العربية، فقد كانت النصرانية تنافس الوثنية على معتنقيها بقوة، كما كانت اليهودية تمارس التهديد نفسه (على المتدينين الزبائن، من الحجاج والوافدين لأجل السياحة الدينية). لقد كانت مصالح قريش الاستراتيجية، تقف وجها لوجه أمام تحديات دينية - تجارية - نفوذية كاسحة جارفة محدقة بكيانها، وأخطر ما في الأمر أن النصرانية واليهودية، كانتا تملكان آنذاك شرعية عُلوية زيادة، على نظيرتهما الوثنية عند قريش، لقد نظر أصحاب الرأي القرشيين في الأمر، وقلّبوه على وجوهه كلها، فألْفَو االنصرانيين واليهود العرب في شبه الجزيرة وهم يملكون كتابًا يملك صفة المُنزّل، المقدس. المُلفت هنا، أن الوثنيين القرشيين، كانوا مُثلثين في اعتقادهم الوثني، يعبدون ثلاثة آلهة (مناة، واللات والعزى)، وهذا أمر يحيل على التفكير جديا في قضية التقليد الديني، التي انتهجتها قريش لمسايرة البريستيج الطقوسي. فقد كان لزاما البحث عن طريقة كفيلة، لمجابهة ذاك التهديد الداهم، الذي كان يحوّم حول الوجود والنفوذ القرشيين عموما، ولا أنجع من التعاضد الديني الدهائي، لإخراج نص مكتوب بمواصفات كتابية، يزعم القوم بعد ذلك قداسته، وقد كان تدبير الأمر غاية في السهولة على ما يبدو، فقد كان يكفي أن يُعلق المكتوبُ من الشعر على جدران الكعبة، ليكتسب صفة المقدس، ليقف بعد ذلك قبالة ألوهية الإنجيل، والتوراة، وإزاء جاذبية الأديان السماوية المنافسة. لم يكن الدهاء يعوز أرباب الفكر والاقتصاد القرشيين قبل الإسلام، ليفكروا بهذه الطريقة التنافسية، فقد كان نظام قريش مهدد بالسقوط، في حال لم يكملوا عُدة دينهم الوثني وجهازه الإقناعي، إن هم لم يغلفوه بكل ما يكفل قدرته على مضاهاة المواصفات الإلهية للأديان التي تنافسه مظهرا وجوهرا. من يُصدق أن العرب كانوا يولمون للشاعر إذا نبغ في قومه؟ لقد كانوا يلهثون فحسب لأجل احتكار منافع، ومداخيل الكلام، بعدما فتحوا له بورصة في السوق، مثله في ذلك مثل الإبل والقمح والشعير والجواري، هكذا كان الشاعر في بداياته جريدة رسمية، تكتبها السلطات العليا لا أكثر، إن الولائم كانت تولم للالتفاف على قداسة الكلام، وعلى متكلمه ليس إلا. غير صحيح البتة كذلك أن الشاعر كان يؤدي دور النبي في قومه، إنها مغالطة كبرى، فهو لم يكن إلا وسيطا برتبة ساعي بريد لا غير، وممثلا افتراضيا، يُنتج نصا تغريريا فحسب، باستعمال اللغة المعالجة لأغراض سياسية دينية، فأصحاب القرار من ذوي السلطة الدينية والسياسية قبل الإسلام، كانوا يعرفون أن الشاعر هو عبدٌ مأمور ليس أكثر، فطرفة هو ابن العبد، وعنترة كان عبدا كذلك، لقد كانوا على دراية، بأن كل ما قد يُظن من قداسة للشاعر، إنما يستمدها الشاعر مما يمكن له مما قد يقتبسه من مشكاة السلطة السياسة الدينية، النافذة، التي لا يَخفى على ملاكها وأربابها وموقديها، السر الأكبر للشاعر، كونه ممثل لسيناريو يكتبه مما يمليه عليه، الآمرون الناهون. قد يقول قائل: إن البلاغة الشعرية متوفرة في النثر كذلك، وعلى صعيد واسع، وإنه يمكن العثور عليها في نماذج نثرية كثيرة تفيض بها المدونة الأدبية العربية. وهذا صحيح، لكن الشعر على ما يبدو كان الأكفل، إبان العصر الجاهلي، بتبيان نضج لغة ما، لأنه مَحصور بزمن، هو ملزم بقصد القول خلاله، هو زمن البيت الشعري. إن الذوق المتلقي، لا يمكنه التفريق كثيرا، بين الأشعار المُرتجلة وبين تلك المُروّاة، كما أن الزمن في البيت الشعري هو حقيقي، وليس افتراضيا أو ارجائيا، فهو يملك صفة القدرة على الإعجاز، وعلى فرادة الانجاز، الشعر وحده إذن الذي كان بإمكانه إثبات وجود علاقات سحرية، سرية وأخرى جهرية، بين تلك الكلمات التي تنتهي بالروي نفسه، وبالقافية نفسها، إن التكرار في الشعر، في الوزن والقافية والروي، يستمد أساسه التأثيري، من طقوسية التكرار في الرقية الدينية، إن الرقية تكرارية، التكرار هنا لتحييد كل ما سواها، يمكننا العودة إلى الإنجيل والتوراة، لنعثر فيهما على نماذج كثيرة للتكرار، وإلى القرآن الكريم أيضا. إن الشعر إذ أنه، يعتمد على تحدي الرقص في قيود القافية والروي والوزن، يبرهن على وفرة الرصيد اللغوي للغته، تلك التي تملك القدرة الكافية على بناء معنى جمالي وهي لا تحتاج في كل ذلك، لا إلى كم كبير من الكلمات، ولا إلى تلوينات في القافية والروي، إنها تخلق الألوان البلاغية من الوزن الواحد، والقافية الواحدة، إنها تدلل على ما تكتنزه من المُسميات فائقة القدرة على القول، والتي هي دلالة على الاتساع الفكري التجريبي، وكأن القصيدة في نشأتها، شيء لها أن تصدر كبرهان مقنع على فصاحة القوم وعلى استحقاقهم للقداسة اللغوية. في الشعر فقط يمكن اختيار الألفاظ بعناية، الألفاظ البرجوازية إياها، التي تشير إلى البذخ النخبوي، هكذا كان الشعر مَسكنا برجوازيا، وثيرا، مكيفا، يتنج في المصانع التي يملكها السياسيون، بالأيدي العاملة المستعبدة التي يضمنها الشعراء. ثم لماذا الوقوف على الأطلال؟ أم هو إشارة إلى الكعبة المقدسة؟ ذلك البناء الذي لم تعرف السنين إليه سبيلا للنيل منه، إن (للكعبة رب يحميها)، من هنا تكتسب لفظة الأطلال قيمتها الدينية الطقوسية.. يمكننا أن نلاحظ بدون كبير عناء، أن كلمة مُدن، هي من مشتقات كلمة دِمَن، المرادفة لكلمة الأطلال، وللرسوم التي تبقى ماثلة، من آثار الديار بعد تهدمها، إن المدن دمن إذا؟، ليس للتشاؤم هاهنا نصيب من التسمية، إنه تفاؤل مدسوس في فلسفة الكيان العمراني المرتبط بقريش لا بغيرها، فكل ماللعرب من مُدن، أو من مشاريع مدن، هو رهين الاندثار، إلا ما كان لقريش، التي تشهد الكعبة بثباتها، على خلودها، إن الكعبة ليست أبدا ولن تكون مشروعا لطلل أي كان، ألم تكتب المعلقات لتعلق عليها؟ ولقد جاء تغيير اسم يثرب، إلى (المدينةالمنورة) ردا صريحا، على صراع أعلى، هو بين النور والظلمات، كل ذلك، لتحرير النزاع والنزال من سطوة المكانية وقداستها، وللانتقال من حلبة الاعتداد بالعمران، الدال على الرسوخ، والشموخ، إلى أخرى تتعدى المكان والتحديد، إلى الإيمان والتجريد. *جامعة تيزي وزو