كان الجيش الزاحف يتقدم ورسول الله على ناقته تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشع لله، لقد انحنى على رحله وبدا عليه التواضع الجمّ حتى كاد عثنونه يمس واسطة الرحل. إن الموكب الفخم المهيب الذي ينساب به حثيثاً إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحف به ينتظر إشارة منه فلا يبقى بمكة شيء آمن، إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل الفصول كيف خرج مطارداً؟ وكيف يعود اليوم منصوراً مؤيداً..!وأي كرامة عظمى حفَّه الله بها في هذا الصباح الميمون! وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعاً وانحناء ويبدو أن هناك عواطف أخرى كانت تجيش في بعض الصدور.فإن ''سعد بن عبادة'' زعيم الخزرج، ذكر ما فعل أهل مكة وما فرطوا في جنب الله، ثم شعر بزمام القوة في يده فصاح: اليوم يوم الملحمة. اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشاً.وبلغت هذه الكلمة مسامع الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) فقال: بل اليوم يوم تعظَّم فيه الكعبة. اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً، وأمر أن ينزع اللواء من سعد ويدفع إلى ابنه مخافة أن تكون لسعد صولة في الناس.وسار رسول الله فدخل مكة من أعلاها. وأمر قادة جيشه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم فدخلت سائر الفرق من أنحاء مكة الأخرى......... وسكنت مكة واستسلم سادتها وأتباعها، وعلت كلمة الله في جنباتها، ثم نهض رسول الله إلى البيت العتيق فطوَّف به، وأخذ يكسر الأصنام المصفوفة حوله، ويضربها بقوسه ظهراً لبطن، فتقع على الأرض مهشمة متناثرة.كانت هذه الحجارة -قبل ساعة- آلهة مقدسة، وهي -الآن- جص وتراب وأنقاض، يهدمها نبيُّ التوحيد وهو يقول: ''جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً''...ثم أمر بالكعبة ففتحت، فرأى الصَّورَ تملؤها، وفيها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام! فقال -ساخطاً على المشركين-: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط، ومحا ذلك كله. حتى إذا طَهَّر المسجد من الأوثان أقبل على قريش وهم صفوف صفوف، يرقبون قضاءه فيهم، فأمسك بعضادتي الباب -باب الكعبة- وهم تحته، فقال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم!! قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.وعندما كان رسول الله بالمسجد يُجْهزُ على الوثنية في عاصمتها الكبرى، اقترب منه ''فَضالة بن عمير'' يريد أن يجد له فرصة ليقتله.فنظر إليه النبيُّ نظرة عرف بها طويته إلا أنه في غمرة النصر الذي أكرمه الله به، لم يجد في نفسه على الرجل، بل استدعاه ثم سأله: ماذا كنت تحدث به نفسك؟.قال: لا شيء! كنت أذكر الله!! فضحك النبيُّ ثم قال: استغفر الله. وتلطَّف معه الرسول، فوضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما مِنْ خَلْقِ الله شيء أحبَّ إلي منه. وصعد بلال فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم في حلم، إن هذه الكلمات تقصف في الجوّ فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين فلا يملكون أمام دويِّها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين. الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. هذه الصيحات المؤكدة تذكر الناس بالغاية الأولى من محياهم، وبالمرجع الحق بعد مماتهم، فكم ضلّلتِ البشرَ غاياتٌ صغيرة أركضتهم على ظهر الأرض ركضَ الوحوش في البراري، واجتذبت انتباههم كلَّه فاستغرقوا في السعي وراء الحطام! وامتلكت عواطفهم كلها، فالحزن يقتلهم للحرمان، والفرح يقتلهم بالامتلاء، ولِمَ يسفه المرء نفسه بالغيبوبة في هذه التوافه؟.إن صوت الحق يستخرجه من وراء هذه الحجب المتراكمة ليلقي في روعه ما كان ينساه، وهو تكبير سيد الوجود، ورب العالمين، سيده ومولاه... أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. لقد سقط الشركاء جميعاً، طالما ضرع الناس للوهم، واعتزُّوا بالهباء، وأمَّلوا الخير فيمن لا يملك لنفسه نفعاً، وانتظروا النجدة ممن لا يدفع عن نفسه عدوان ذبابة. ولِمَ الخبط في هذه المتاهات؟ إن كان المغفَّلون يشركون مع الله بعض خلائقه، أو يؤلهونها دونه؟ فالمسلمون لا يعرفون إلا الله ربَّاً، ولا يرون غيره موئلا.والتوحيد المحض، هو المنهج العتيد للغاية التي استهدفوها.ولكن مَنِ الأسوة؟ مَن الإمام في هذه السبيل؟ مَن الطليعة الهادية المؤنسة؟ ويوم يخرج العمل من الإنسان وهو صحيح في صورته ونيته، فقد أفلح، ولو كان من أعمال الدنيا البحتة، ألم يعلِّم الله نبيه أن يجعل شؤون حياته، بعد نسكه وصلاته خالصة لله؟:{قلْ: إنَّ صلاتي وَنُسكي ومحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمينَ. لا شريكَ لهُ وبذلكَ أمرْتُ وأنا أوَّلُ المسلمينَ}.ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصغار ما عدا الله من غايات، والتزام توحيده أبداً، ومن ثم يعود إلى تقرير الغاية والمنهج، مرة أخرى. الله أكبر الله أكبر...لا إله إلا الله... وهكذا دخل أهل مكة في الإسلام، وإن كان بعضهم بقي على ريبته وجاهليته يتعلق بالأصنام ويستقسم بالأزلام، وأولئك تركوا للأيام تشفي جهلهم، وتحيي ما مات من قلوبهم وألبابهم.وما دامت الدولة التي تحمي الوثنية وتقاتل دونها قد ذهبت، فسوف تتلاشى هذه الخرافة من تلقاء نفسها. إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة، ولقد أفلحت خطة المسلمين في تعمية الأخبار على قريش حتى بوغتوا في عقر دارهم، فلم يجدوا مناصاً من الاستسلام، فما استطاعوا الجلاد ولا استجلاب الأمداد، وفتح العرب جميعاً أعينهم فإذا هم أمام الأمر الواقع؛ حتى خُيل إليهم أن النصر معقود بألوية الإسلام فما ينفك عنها!.