ذات شتاء حزين استيقظت السماء على وقع جثة يانعة همدت تحت سنابك موت اختارت له “صافية عينان" وتاريخ ومكان: فأما العينين فهما لقيثارتها المكسرة وأما التاريخ فهو يوم شتاء رصاصي المذاق 29/01/1989 وأما المكان فكان لأناس آخرين لم يذوقوا طعم الحرقة في صمت تلك الغزالة التي لم يرحموا أنوثتها ولم يقدروا حق وجودها بينهم وهي التي لم تقل سوى شعرا بسيطا بساطة منبعها وقصصا من عمق خيالها الجامح ولم تكن الطريقة التي دفنت بها صافية كتو في أحداثها “الجنائزية المؤلمة" بعيدة عن ما عانته في حياتها جراء نضالها كصحفية وشاعرة وقاصة.. كانت صافية كتو تمثل معادلة نسوية في الساحة الأدبية الجزائرية، تلك الخمرية ذات الشعر الفحمي الآتية من عمق مدينة تحفها الكثبان مدينة عين الصفراء، ها هي، اليوم، تزفكم فراقها الأليم بعد مرور 24 سنة على وفاتها تزفكم خوفها من الذكريات التي تترك إيقاعها كأغنيات لا تنسى، خائفة من مجالس المساء الدافئة حول الموائد البنية الصغيرة لارتشاف فناجين البن الممزوج بالحب وتحلم أن تعبر حدود العالم كي تكتشف محط العصافير وتلحظ المدن والأرياف، كيف تغير أطقمها لتبدو في أحلى منظر، تستحضر الطقوس القديمة وتمجد ماضيها، لكن حبها للصحراء يطغى على كل حب بل ويفوقه إيمانا، الصحراء التي تهزم الأجساد وتمجد الأرواح، الصحراء المرادفة للحرية في شساعتها، الصحراء لحبات رملها الذهبية التي لا تتركها تنتظر من الرجال أي شيء فهي مرادف للصفاء، الصحراء لسمائها النقية الصافية كالخلود لطالما كانت مدينة عين الصفراء مبعث فخر واعتزاز للشاعرة كأصل متجذر منذ الولادة وبين مدينة العاصمة التي فتحت لها صدرها ووفرت لها حضورا أدبيا وانطلاقتها في الحياة.. لكنها في خضم الحياة، في يوم ما وظرف ما، لم تسطع أن تواصل العيش فاختارت الموت، موت كانت صافية قد أعدت له أدواته ليكون بالصورة الأكثر مأساوية ليليق بحجم المعاناة والقلق اللذين اكتنفاها عندما كانت على قيد الحياة، وذلك واضح من خلال قراءة متأنية وذكية لديوانها الشعري الموسوم “صديقي الڤيتار" حيث تبدو صافية شاعرة هادئة ومملوءة بالحياة تحب وتكره وتحلم وتكتب عن الأشياء التي تدغدغ روحها لكن تلك الروح الشفافة والواعية كانت في الحقيقة تكتنز بين تلافيفها جرعة عالية من الألم والبكاء والخوف والفراغ تطورت إلى اكتئاب في أواخر أيامها ثم أخذت منحى تصاعديا أضفى عليها “برودة في الروح"، كما وصفت ذلك الشاعرة نفسها في إحدى قصائدها الموسومة “في هذا اليوم" حيث تقول: “في هذا اليوم، شعرت بالبرد يعشعش في روحي، وجليد الكآبة يضغط على كياني". إن مسألة انتحار صافية كتو تعتبر مسألة خاصة تتعلق بصراع نفسي شرس عانت منه الشاعرة في دواخلها قبل أن تحسم الأمور أسفل الجسر. روحي أين تتألمين؟ أرجوك اخبريني إذا كنت تتألمين فأنا أيضا أتالم إذن دليني دليني لموضع الألم الذي يقطع أنفاسي مختارات من أشعارها : شعر/ صافية كتو ترجمة/ محمد عاطف بريكي. - 1 - فراق أنا خائفة.. خائفة من أجزاء فارغة وحقائب مملوءة من نصف طائرة تحلق في السماء أنا خائفة... خائفة من مائدة قريبة من مجالس المساء من رائحة الضحكات في طيات الستائر خائفة أنا من جدران تتكلم عن لحظات لازوردية خائفة أنا من الذكريات التي تترك فينا الأغنيات - 2 - سفر آه، كم أحب أن أعبر حدود العالم من أجل أن أكتشف محط العصافير لا شيء غير اللغات والأغنيات معجونة في عمق الموانئ لا شيء غير الروائح الجديدة التي تفوح في عطر واحد مرة في عمق الليل فتحت الشباك فقط من أجل أن استنشق نسيم البحر تلك الرائحة المعقدة لقد كانت مغامرات للتأهب ونظم الأشعار لا يزال حنانها محلق في سماء الثورة بيد أني أتخيل البلدان التي يمر عليها وأظن أنها خلابة على اختلافها الأطقم القديمة التي تلبس الأحياء والطقوس العتيقة التي تستحضر ماضيها إنه عصر السرعة أين تشيد المدن الحديثة والطرقات اللانهائية بالقرب من البنايات الممشوقة وصور الأناسي في تنوع أطيافها تروح وتجيء دون ملل مأخوذة في تدفق الزمان... - 3 - نظرة الصحراء أحب الصحراء لشساعتها التي تهزم الأجساد وتمجّد الأرواح أحب الصحراء لريحها السريع لا أحد مقيد فهي الحرية أحب الصحراء لرمالها الذهبية التي لا تنتظر شيء من الرجال فهي الصفاء أحب الصحراء لسمائها الغامضة النقية إنه الخلود في الصحراء المعمورة تلك ولا من صحراوي ... متصوف يحرك نظراته هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته تقديم وترجمة/ محمد عاطف بريكي