يتوافق العشرون من أكتوبر لهذه السنة مع مرور مائة وخمسين سنة على ميلاد الفيلسوف الأمريكي جون ديوي John Dewey، فيلسوف مخضرم عاش موزعا بين قرنين قرابة خمسين سنة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأزيد من نصف قرن في القرن العشرين· الفيلسوف الأمريكي جون ديوي واحد من المفكرين والنوابغ الذين عمروا قرابة مائة سنة (1859-1952) وقلة من زملائه في الحكمة من قاربوا هذه المدة إذا استثنينا برتراند راسل في الفلسفة المعاصرة· ويبدو أن ديوي استثمر جل هذه المدة الزمانية التي عاشها ووظفها إلى أقصى حدود منحاه الفكري، إذ ظل نشيطا وحيويا إلى غاية الأيام الأخيرة من حياته كما أنه قضى معظم أوقاته في التأليف والكتابة (فقد كان مكثار التأليف وجل كتاباته يتجاوز حجمها خمسمائة صفحة أغلبها ألفه بمفرده وبعض منها اشترك معه آخرون من أمثال جيمس تافتس، آرثر بنتلي وابنته إيفلين ديوي) حتى وإن كانت أهم مؤلفاته قد نشرت ما بين نهاية القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين· فمن أولى مقالاته المعنونة الدعاوى الميتافيزيقية للمذهب الماديThe metaphysical Assumptions of materialismة سنة 1882 إلى غاية آخر كتاب له المعرفة والمعروف سنة 1949 مع بنتلي Knowing and the known تزيد أعمال ديوي عن أربعين مؤلفا بالإضافة إلى العديد من الدراسات والمقالات التي لا تتسع عشر الصفحات لحصرها· وفي الواقع، يرتبط ميلاد الفيلسوف الأمريكي جون ديوي بثلاث أمور ليست لها دلالات قوية وواضحة عدا إذا قمنا بربطها ببعضها - ربطا تعسفيا ربما- لتعطينا معنى : - غالبا ما يقرن ميلاد ديوي سنة 1859 بصدور كتاب داروين في نفس السنة ولست أدري لماذا يصر بعض الدارسين على هذا الربط بين ميلاد الفيلسوف مستقبلا وبين كتاب أثار ضجة لم يحدثها أي كتاب آخر ولا تزال ردود الفعل والارتدادات - العلمية والفلسفية والدينية والسياسة إزاءه إلى اليوم- قد تكون الصدفة هي التي جمعت بين الحدثين أو ربما لأن ديوي تأثر بداروين· وقد يكون هذا أحد الأسباب وراء إلحاح البعض على ربط كتاب أصل الأنواع بفلسفة ديوي حينما نعلم بأن هذا الأخير تأثر أيما تأثر بأفكار نظرية التطور إلى درجة أن رأى فيه بعض الباحثين أنه ساهم بقسط وافر في جعل أفكار داروين مقبولة لدى الأمريكيين وخاصة البيوريتان المتشددين الدينيين الرافضين لنظرية التطور والارتقاء· - كما جمع هذا التاريخ سنة 1859 ميلاد ثلاثة فلاسفة عظام في القرن العشرين هم : جون ديوي، إدموند هوسرل وهنري برغسون· وثلاثتهم كان لهم أثر بارز على الفكر الفلسفي المعاصر واستطاع كل واحد منهم بنزعته المتميزة سواء البراغماتية أو الفينومولوجية أو الحيوية أن يترك بصمة جلية على ملامح وتيارات الفلسفة المعاصرة· - وثالثا يتصادف شهر أكتوبر وهو الشهر الذي فيه بنفس الشهر الذي ولد فيه أحد أهم الفلاسفة الأمريكيين وفي العالم في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين وأقصد به ريتشارد رورتي وليس هذا فقط بل إن شهر الوفاة بينهما واحد وهو شهر جوان فمن باب الصدفة أن يولدا الأستاذ والتلميذ في نفس الشهر ويتقاسمان الشهر نفسه في الميلاد والممات (ديوي ولد يوم 20 أكتوبرسنة 1859 وتوفي يوم 1 جوان 1952 ورورتي ولد يوم 4 أكتوبر سنة 1931 وتوفي يوم 08 جوان 2007)· ومن باب استحضار محطات حياة الفليسوف الفكرية يتوجب علينا أن ننتخب علامات وشواهد من حياته الزاخرة بالعطاءالفكري (مؤلفاته وأعماله التربوية خاصة) والمواقف الشجاعة(لاسيما مع قضيتي ساكو وفانزيتي وتروتسكي) والرحلات الطويلة التي قادته إلى الصين واليابان، إيطاليا وبريطانيا، تركيا والمكسيك وروسيا، كانت أساسا لتوطيد آرائه السياسية والتربوية وجعلته يثق في قدرة الخبرة كفلسفة شاملة· إن تجربة ديوي مع الفلسفة والتربية والديمقراطية طويلة وثرية إذ يكفي أن نلحظ فيها تمازج رؤى الفيلسوف مع طروحات مُنظّر التربية مع مواقف المناضل من أجل الديمقراطية والمساواة والحرية· فقد آمن بالخبرة وجعلها محورا لفلسفته تماما مثلما آمن ببلده المعبر عن الخبرة - كما آمن به أسلافه من أمثال وايتمان، جيفرسون وفرانكلين- وبقدرة أمريكا على تصدر قائمة الدول الديمقراطية إلى أن صار نموذجا في العالم الغربي وتجربة يحتذى بها على الرغم من نقائصها وهي تجربة ما فتئت تصحح نفسها فهي وإن انطلقت باستعباد الأفارقة ومعاملتهم بقسوة وظلم إلا أنها حررتهم وسارت على طريق نبذ التمييز العنصري ليصل في ظرف قرنين من الزمان من كان أسلافه عبيدا إلى رأس هرم السلطة في الولاياتالمتحدةالأمريكية ولا أعتقد أن بلدانا أخرى تتشدق بنقد أمريكا كانت ستفعل أو تصل إلى هذا المستوى من التغيير حتى ولو كانت دولة مسلمة نرى فيها أن كثيرا من السود لم يخرجوا بعد من عصور الظلام والاستعباد ولم تسلم لهم مناصب عليا من المسؤولية بينما لا ينفك أهلها في معايبة أمريكا وهم يدركون جيدا حتى أن مسألة إلغاء العبودية والتي لم تتم في كثير من دول العالم الثالث إلا حديثا وشكليا - بينما الواقع يكشف عن ممارسات أفظع من الاستعباد التقليدي- لكنها لم تغير من الأمر شيئا على أرض الواقع· فالتغيير الذي حصل في أمريكا وحمل باراك أوباما إلى سدة الحكم هو نفسه الشعار الذي رفعه أوباما ومكنه من الوصول إلى البيت الأبيض ولا يضاهي هذا التغيير في العالم المعاصر إلا ما حصل في جنوب إفريقيا وإنهاء حالة التمييز العنصري التي كان يعيشها البلد والتي مكنت السياسي السجين نيلسون مانديلا من قلب الصورة من مجرد محكوم إلى حاكم· فعلى الرغم من نسبية التغير في الحالتين الأمريكيةوالجنوب إفريقية ومحدوديتها في الوقت إلا أنها تحمل آمالا واعدة بتحسين مسارها وتقديم نفسها كنماذج من التغيير الممكن لملايين من البشر التي تعاني الاحتلال ،الفقر والتهميش والتمييز والإذلال· إذن فيما يتمثل الإرث الذي تركه ديوي للإنسانية ؟ وما أثره على واقع الفلسفة عندنا ؟ هل نال حظه من الدرس والبحث في جامعاتنا ؟ وهل له حضور في منظومتنا التربوية وهو الذي كرس جل حياته خدمة للتربية والفلسفة والديمقراطية ألا يحق لنا أن نتمعن بجد وبعمق الدرس الذي ينتظرنا في تجربة ديوي ؟ أم أننا لا زلنا نقتفي آثار تجرنا إلى مرجعيات خاطئة تضمر أهدافها ولا تفصح عن نواياها وتخشى حتى من وضع اسم علم مثل ديوي ضمن قائمة الفلاسفة الكبار وحتى الصغار ؟ ولا نفهم لماذا هذا التغاضي المقصود في تقزيم صورة فيلسوف شهرته فاقت الآفاق خارج النطاق الفرانكفوني وربما كان العامل الإيديولوجي وراء ذلك حيث عمل بعض اليساريين على تشويه سمعة الرجل وهو الذي اتهم بأنه مناصر للامبريالية الأمريكية على الرغم من أنه لم يسلم حتى داخل أمريكا من اتهام البعض له ولتلاميذه بانتسابه للشيوعية وكان ذلك في ظل حملة ماكارتي على الماركسيين والتي راح ضحيتها الآلاف من اليساريين في بلد كان يعرف بالديمقراطية والحرية لكن في صميم تلك الأحداث وباسم الدفاع عن الليبرالية انمحت كل القيم والشعارات وبات كل شيء مقبول دفاعا عن أمريكا· يحق لنا أن نتساءل عن الدرس الذي استلهمناه من ديوي، من حكيم كرس جل جهوده للتربية وما هي ممكنات الاستفادة من منهجيته التربوية ونظريته البيداغوجية خاصة وأن منظومتنا التربوية تعرف إصلاحا فاقت مدته عشر سنوات ولم تتبين معالمه بعد بوضوح إذ ما يزال الارتباك يطبع أذهان المختصين قبل التلاميذ وأوليائهم كما أن جامعاتنا تعيش على وقع تجربة نظام تعليمي جديد(ل م د LMD) مصدره بلاد ديوي والعالم الأنغلوساكسوني ؟ وهو أيضا يعاني من بداية ضعيفة وإقبال محتشم للطلبة وأحكام سلبية إزاءه زادت من حدة الاحتجاجات بين نقابات الطلاب وهيئات التدريس التي تشكو انعدام التحضير والاستعداد لهذا النظام الجديد وقلة الوسائل البيداغوجية الداعمة لإنجاحه· لكن يبدو أنه حكم علينا في جميع شؤوننا أن تأتينا رياح التغيير بإذن من الشمال وبتوقيع أو ترخيص مترجم حتى نتفطن إلى الوسيط الذي يتحكم فينا ولكن دوما بعد فوات الآوان لأن هذا الوسيط هو نفسه ينهل من المصدر الأمريكي الذي يرسل به إلينا مغلفا بألوانه· يتوجب علينا إذن ان نعمل على تنويع مصادرنا الفلسفية فلئن كانت الفرنسية منها هي الأقرب لغة وجغرافيا فإن المصادر الألمانية والإنكليزية والأمريكية وأخرى وهو ما يطرح سؤالا حيويا في منظومتنا التعليمية وحول استقلالنا الحقيقي· وفي الوقت الذي اعتنى فيه إخواننا في المشرق (في مصر خاصة) بإنجاز دراسات وأبحاث علمية حول الفلسفة البراغماتية بشكل عام وفلسفة ديوي الوسَلِيَة المتفرعة عن البراغماتية الأم وكانوا روادا في تقديم أعمال أكاديمية هامة حول فلسفة ديوي مست بالخصوص جانبها التربوي والسياسي فإنهم فضلا عن ذلك ألفوا كتبا تناولت فلسفة جون ديوي ونقلوا كثيرا من مؤلفاته إلى العربية (ما يزيد عن أربعة عشر مؤلف) وبذلك قدموا خدمة جليلة للقارئ العربي ويمكننا أن نذكر بهذا الصدد المجهود الكبير الذي قام به زكي نجيب محمود، أحمد فؤاد الأهواني، زكريا ابراهيم، أمين مرسي قنديل، متى عقراوي، زكريا ميخائيل، أحمد حسن عبد الرحيم، محمد لبيب النجيحي وغيرهم من الذين ساهموا في التعريف بالفكر الأمريكي المعاصر ممثلا في جون ديوي· غير أن الأمر عندنا في الجزائر لم يكن بمثل هذا الاهتمام وإذا ما رجعنا على الأقل إلى مجال البحث الأكاديمي فإننا لا نعثر على قلة قليلة من الدراسات الفلسفية الجزائرية التي أفردت ل جون ديوي في جامعاتنا وهي الدراسات التي دشنها البروفيسور محمد بلعزوقي بدراسة قدمها بجامعة بقسم الفلسفة جامعة إيموري بالولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1983 وتحت إشراف جيمس غوينلوك James Gouinlock. عنوانها: فلسفة جون ديوي للدولة السياسية s Philosophy of the Political State."UJohn Dewey ثم تأتي دراستنا المعنونة /فلسفة الخبرة عند جون ديوي/ المقدمة رسالة لنيل شهادة الماجستير سنة 1997 وتبعتها دراسات أخرى هنا وهناك بالجزائر العاصمة سواء بقسم الفلسفة أو بالمدرسة العليا للأساتذة أو بقسم الفلسفة قسنطينة أو بقسم الفلسفة بوهران، وربما في أقسام الفلسفة التي أنشئت في السنوات الأخيرة شرقا ووسطا وغربا، منها ما أنجز ومنها ما هو في طور الإعداد كلها عالجت فلسفة جون ديوي من جوانب شتى لكنها لم تغط كل جوانبها إذ تبقى كثير من مواضيعها بحاجة إلى فحص ودرس فلسفيين معمقين في إطار بحوث سواء من درجة الماجستير وبالأخص الدكتوراه· ويمكن أن نذكر منها المذكرات الآتية: /منهج الإصلاح الاجتماعي لدى جون ديوي/، /الخبرة الجمالية عند جون ديوي/، /الأخلاق عند جون ديوي/، /العامل الاجتماعي في التربية عند جون ديوي/، /الديمقراطية والمجتمع المدني في فلسفة جون ديوي/ و/فلسفة التربية عند جون ديوي/(قيد التحضير)· يبقى علينا أن نتساءل: ما جدوى وأهمية هذه البحوث وأثرها في واقعنا وما يمكن أن تقدمه لمجتمعنا خاصة في ظل أوضاع اجتماعية لا تبعث على التفاؤل وتستدعي من نخبتنا التفكير مليا في إصلاح وضعنا الاجتماعي الذي لا محيد لهذه النخبة من المساهمة في ذلك وعدم الاكتفاء بإلقاء المسؤولية على عاتق السياسيين ومثال ديوي في نزعته الاجتماعية التي جعلت أفكاره التربوية والسياسية والفلسفية تصب كلها في خدمة المجتمع وجعله مجتمعا منسجما منظما فعالا· وباعتقادنا أن جدوى البحوث الفلسفية لا يتعلق بفلسفة ديوي كنموذج فلسفي بل بكل الفلسفات التي حظيت بحظ كبير أو قليل من الدراسة والبحث بل وبكل البحوث العلمية النظرية والتطبيقية في جميع التخصصات والفروع العلمية التي تنجز في جامعاتنا كل سنة· وقد تجيبنا الندوة العالمية التي سينظمها مركز البحث ببيفالو بولاية مينيسوتا الأمريكية ما بين 22 و24 أكتوبر القادم وتحت عنوان أثر ديوي في أمريكا والعالم عن مدى تأثير مثل هذه الدراسات في واقعنا المعيش·