إحتفلنا منذ أشهر بعيد استقلالنا الخمسين، وقد طرح البعض السؤالين الكبيرين: ماذا فعلنا باستقلالنا؟ وما كانت الحصيلة بعد خمسين سنة؟ وقد أقيمت الكثير من المؤتمرات وخُصصت كتب وملاحق وملفات صحفية للحقيقة التاريخية، لكتابة التاريخ وللحصيلة الاقتصادية وكان أن حظيت التحولات الاجتماعية والنفسية للجزائري باهتمام أقل وفي ذيل القائمة، تقريبا، كان الشّعر وحيدا، إننا نحاول هنا عبر أسئلتنا الموّجهة إلى الشاعرين “طيب لسلوس" و«ميلود حكيم" الذين عايشا نصف هذه المدة، تلمّس واقع الشّعر في الجزائر بعد خمسين سنة من استقلالها، وانحصار كل ما هو شعري في ظل ما يعيشه الجزائري ووطنه من تحولات نفسية واجتماعية كبيرة، ويبقى السؤال الأجدر بدراسة المختصين هو ما تعبّر عنه أزمة “الشعري" من عمق الأزمة التي يعيشها “الثقافي" في الجزائر. الشاعر “طيب لسلوس" ل “الأثر": «سيظل عمر الفنان بعمر الفراشة مادامت المنظومة التربوية والجامعية لا تتناوله بالدرس» أي مكان للشعري، اليوم، في حياتنا كجزائريين؟ وهل تتسع وسائل الإعلام وحتى الأوساط الثقافية في زمن السينما والرواية لمناقشة مكانة “الشعري" في حياتنا؟ لنتفق أولا على أن “الشعري" لا يعني بالضرورة الشعر، فالشعر هو أحد مجاري الشعري مثله مثل الموسيقى والمعمار والرقص... فهناك إذن شعرية الموسيقى وشعرية المعمار والرقص، “الشعري" هو ما يجعل العمل، عملا فنيا يمتلك هرمونيته ضمن الإطار العام لثقافة ما، ومن ثم لا يبدو لي أن الحياة كثقافة في لحظة ما تكون فالتة من الشعري إذ أن كل فعل تتويجي قائم على حراك ثقافي ولو بسيط يمتلك شعريته بالضرورة، صحيح أنه يمكن أن يغرق في ضبابية الراهن أو في نثرية الفعل الاجتماعي الثقافي لكن هو دوما حاضر. طبعا الأمر هنا يتعلق بكل ثقافة بوصفها مكوننا formatuer ومميزا للشعري. ومن ثم لا أظن أننا نحن كجزائريين بإمكاننا أن نفلت من هذه المظاهر العامة للخطاب المكون للثقافة ومن الشعري كأحد عناصرها. والأكيد أن هناك شعري خاص (للثقافة الجزائرية) ربما نشترك فيه مع الكثير من الأمم القديمة، خاصة التي عانت الاستعمار، أي شعرية ضياع الرمزي أو بتعبير آخر شعرية الثقافة المبتورة من رموزها والمقذوفة في ثقافات أخرى لا تعترف برموزها بالقدر الذي يسمح لها باستعادة روحها العام كفاعل، وهذه الفجوة في أسئلة الهوية واحتكار حقيقة التاريخي والرمزي كمشرقة تاريخ المغرب الكبير بشكل منظم، ما هي إلا تشوهات زادت في تمزيق الذات المركزية العامة للجزائري والتي أنتجت هي الأخرى أسئلة وهمية أخرى. كيف تقرأ المشهد الشعري الجزائري، اليوم؟ من حيث النضج هناك أصوات جزائرية استطاعت أن تخلق لنفسها مكانا، وهذا بشهادة غير الجزائريين، وهناك متن جزائري مميز ومميز جدا، بل ومتجاوز من حيث التجريب والفرادة، المتن المشرقي بعامة. ربما أعيد هنا ما قلت، سابقا، أي أن هذا ربما يعود إلى أن الإنسان الجزائري يعيش أزمة من أعمق الأزمات الإنسانية على غرار كل الشعوب المنهوبة والمقطوعة عن جذروها الثقافية الخاصة، ولهذا السبب يقف النص الجزائري أكثر مغامرة وأكثر إصرارا على حفر طبقات وعيه بالإنسان في كل الثقافات ليخلق لنفسه موضعا. ما انتبهت إليه، مؤخرا، ومن خلال بحث مضنٍ للنشر لأصوات شعرية جديدة، اكتشفت أن الأصوات الشعرية الجديدة قليلة وقليلة جدا، في تسعينيات القرن الماضي كانت هناك أصوات جديدة ومميزة كل سنة تظهر وتستمر في صقل موهبتها لكن هذا الأمر لا يحدث الآن، رجحت أن قلة المهرجانات المهمة على غرار المهرجانات في الثمانينيات والتسعينيات هو السبب، وإن حدثت فهي لا تهتم بالأصوات الجديدة بقدر ما تصنع لنفسها النجاح بالأصوات المكرسة. هل أصبح الشعر، اليوم، نخبويا والشعراء لا يقرؤون إلا لبعضهم؟ الروائيون يموتون سريعا كما يقول الشاعر الفرنسي برنار نويل، يبدو أنه في الجزائر الشعراء هم من يموتون سريعا فأغلب الشعراء الجزائريين لا يملكون إلا ديوانين أو ثلاثة في أحسن الأحوال؟ أعتقد أن هذا السؤال متفائل نوعا ما، فليس الشعر وحده النخبوي، كل الفنون هي نخبوية، طبعا أنا أتكلم عن الجزائر لا غير، والدليل بسيط جدا، المنظومة التربوية والجامعية التي ما تزال تتجاهل الإنتاج الأدبي الجزائري في النصوص المتعلقة بالتدريس. كيف يمكن أن نتكلم عن الانتشار وطالب في الجامعة ما يزال لم يقرأ نصا واحدا في القصيدة الحرة ولم يتناول أستاذه الجامعي نموذجا لشاعر حديث، كيف تريد لهذا القارئ المفترض أن يقرأ لروائي أو شاعر بجماليات مختلفة؟ وكيف لك أن تشيع قراءة الشعر أو الرواية من دون كل هذا؟ القارئ يصنع عبر مساره المدرسي والجامعي، طبعا أنا لا أتكلم عن الدول العربية، لأنني كما قلت لك الجزائر حالة نادرة وشعب نادر بين قوسين، وسيظل عمر الفنان ليس قصير فحسب، بل بعمر الفراشة مادامت المنظومة التربوية والجامعية لا تتناوله بالدرس. الشاعر “ميلود حكيم" ل “الأثر": «كل الفنون في الجزائر نخبوية وليس الشعر وحده» أي مكان للشعري، اليوم، في حياتنا كجزائريين؟ وهل تتسع وسائل الإعلام وحتى الأوساط الثقافية في زمن السينما والرواية لمناقشة مكانة “الشعري" في حياتنا؟ أما عن مكانة الشعر عند الجزائريين، فهذا سؤال يؤرق لأنه يمتد لحضور كل ما هو ثقافي في الجزائر، و كل ما له علاقة بالمقروئية ومتابعة ما ينجز في عالم الفنون والإبداع عموما.. هنا الوضعية تستدعي لفت الانتباه إلى التحولات التي حدثت في المشهد الجزائري، حيث الشعر هنا أو في أمكنة أخرى يحضر خافتا وصامتا لأنه صوت الأقلية التي اختارت الانتصار لما يبقى قريبا من حميمية الكائن وأسئلته التي لا يمكن تقاسمها من الجميع، إذ هو قسمة الهامش القلق، الذي يتطلب صبرا وأناة في متابعة المشاغل التي لا تنتمي للقسمة الجماعية الواسعة بل لروح أقلوية متوغلة في الزوايا البعيدة.. وهذا ليس جديدا إذ الشعر في تاريخه كان دوما بعيدا عن الصخب والضجيج. من جهة أخرى، تراجعت الاحتفالية بالشعر وغاب عن المنابر العامة بسبب المناخ العام الذي لا يشجع الإبداع وسيادة النزعة الاستهلاكية السريعة وعودة الشفهية الجديدة مع الانتشار الواسع للإنترنيت وغياب ثقافة القراءة والمطالعة. بسبب هذا التراجع، يحضر الشعر في فنون وكتابات أخرى ليصبح سرها ونسغها الداخلي، وليمنحها تلك الطاقة الخلاقة التي تثريها حتى أننا أصبحنا نسمع عن الرواية القصيدة وعن البرفورمانس وعن القصيدة اللوحة وغيرها من المظاهر التي تؤكد حضور الشعر بصيغ أخرى في مجلات أخرى واتساع رقعة الشعري في جغرافيات جديدة.. يبقى أن مكانة الشعر ما زالت هامشية وهذا يعكس موت الإنسان وموت الفنون ودخولنا في مفاهيم جديدة عن الكائن الافتراضي والعوالم السيبرنتية. وكيف تقرأ المشهد “الشعري" الجزائري اليوم؟ المشهد الشعري في الجزائر غير واضح المعالم ولايمكن مقاربته في ظل التشظي الذي تعاني منه ثقافة التبادل والحوار والتداول.. المأزق يبدو مرتبطا بغياب مناخ ينتصر لإصغاء جاد للتجارب الشعرية وربطها بمختلف مراحلها من القديم إلى الحديث والمعاصر، وغياب رؤية نقدية وعمل أكاديمي يموقع هذا الشعر في خريطة الإبداع العربي والعالمي.. يحيا الشعر وحيدا، ويتنفس من خيباته وخساراته، ويحيا الشاعر مهمشا ومنبوذا لا يصل صوته إلا إلى القليل، لأننا فقدنا قيم الجمال والإبداع التي كانت تحرك الأرواح وتدفعها إلى الأمام.. خسرنا الكثير منا في خراب يتسع ويمس كل شيء.. يمس جوهر الإنسان فينا.. لهذا يجب إعادة التفكير في كتابة المشهد الشعري الجزائري في ضوء مقاربات جديدة لا تلغي أية تجربة أو لغة أو تعبير.. هكذا فقط، يمكن أن نتحدث عن شعر جزائري في حرية الاختلاف المتفتح والتنوع المبدع.. التجارب الفردية موجودة لكن الروح الجماعية التي تجعلنا نسمي ما يكتب جزائريا تبقى غائبة.. هناك عمل كبير ينتظر الجميع. هل فعلا أصبح الشعر، اليوم، نخبويا والشعراء لا يقرؤون إلا لبعضهم؟ الشعر لا يقاس بالجماهيرية أو النخبوية.. إنما يقاس بالإبداعية.. قد تكون هناك نصوص عظيمة لكنها نخبوية وهذا لا يضرها في شيء.. العبرة في العمل الذي يجب أن يصاحب الترويج للشعر والإبداع عموما، أي كيف يحضر في حياتنا اليومية عبر نشاطات تخرجه من القول إلى الحركية التي تتيحها التبادلات الرمزية والتعميم الفعال لحضوره من خلال الاحتفاء الذي لا يكون مناسباتيا ولكن يتوغل في مدارسنا وشوارعنا ومحطات المترو والقطارات والحافلات وفي الفضاءات العمومية.. الشعر هو الحياة ولا بد أن ننتصر لها. الاستمرار في كتابة الشعر ونشره في الجزائر صعب، لأن الظروف العامة لا تساعد وتلقي الشعر أصبح عسيرا. ثم أغلب الناشرين يعزفون عن نشر القصائد بحجة أنها لا تباع ولا مردودية تجارية لها.. لكن مع ذلك الشعراء يواصلون الكتابة وفي أحيان كثيرة دون أن ينشروا ودون أن يعلنوا هذه الكتابة ويخرجوها للملأ، الخاسر الكبير هو الثقافة الجزائرية.. لكن نأمل أن تكون هذه الحالة عابرة وتعود الروح إلى دواليب المشهد الثقافي.