هو الصوت، الدين صوت، إنه ليس المؤسسة المشيخية، الانذارات بأهوال يوم القيامة، النذر البواطل من الأعمال المخلوطة ومخالطة أهل البغي في الدين والمذهب والاختيار والجماعة وأصحاب التأويل الفاسد. كانوا ثلاثة وكان الرابع من بينهم، سعيد رمضان البوطي أقربهم إلى الغبطة والسماحة والصفح، فلقد مال الشيخ يوسف القرضاوي إلى نزعة سياسوية ذات لمحة اخوانية بتفكير ذرائعي يضع ثنائية الديني والسياسي على شيفرة واحدة، ومنتحيا جانب السياسة في ألعوبتها المعولمة على ما هي اليوم قطر وأخواتها في الجيرة والدين وفي الإقليم والديناميت، في الصحراء وفي بئر البترول، ثم كان الشيخ محمد متولي الشعراوي نجم التلفزيون العربي المصري بتفسيره الرهيب ومكنته من سلس اللغة واستعارة المألوف واللاّمألوف، رجل قرآن وحجاج وغرابة ودخان، لم يكن الشعراوي فصلا في المقدمة الإسلاموية وأطاريحها المنطقية واللاّمنطقية، لم يكن في التنظيمات ولا هو مشيدا بالفعل الحركي الإسلامي، كما كان محمد الغزالي شيخ فكاهة ودعابة وتندر، محاربا من محاربي القرن الفائت، حيث ظهرت موجة الإسلام الدولي السلفي العابر للقارات والمحيطات، للهويات والإثنيات، لكن محمد الغزالي أباح للجمهور الغناء واللهو، العبث بجماجم الاستعمار والغاصبين للأوطان، الداسين حرمات العرض والأرض، حمل محمد الغزالي وزر وأنواء الحالة الإسلامية المتعثرة بربّات الحجال من فتيان السوء، مفسدو الدين والتدين، متسامحا مع الرقص وأم كلثوم، منتشيا بفيروز وعبد الوهاب وفريد الأطرش.. وفيما حارب الاثنان، الغزالي والشعراوي الفتوات من أيديولوجي العنف الراديكاليين وهما كانا عاصرا موجة الثمانينيات تلك التي تخصّصت في السلفية ومذاهبها، فلطالما كانت تتفرع هنا وهناك ولا يان تفرعها يرتبط بالزمان والجغرافيا، بالطبقة الاجتماعية والمنشأ السوسيولوجي، كما بالتحولات السياسية الإقليمية والدولية، لقد كانت الفترة تلك وشيكة ولونها صاخب وصوتها ناشز من بين كل الجوقات والتيارات، سلفيات، سلفيات، جماعة الألباني وشذوذاتهم، جماعة الشيخ أبو بكر الجزائري واعظ الحرم المدني المعروف ومحازبيه، جماعة علي حسن عبد الحميد وابراهيم أبو شقرة في عمان الأردن وانهمامهم بالأحاديث والإشادات، جماعة زين العابدين بن سرور والسروريين وميلهم لمزج الأخونة بعصر الصحابة الكرام وصفاء عهدهم الذهبي الأول، جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر والسودان وتكفيرهم للترابي والميرغني والصادق جماعة أحمد فريد في الاسكندرية، الجماعات السلفية في فرنسا وبلجيكا واسبانيا وألمانيا وايطاليا، جماعة جميل الرحمن في أفغانستان ومعهم ومن بعدئذ الطالبان في دستورهم الديني الأمبريالي التوتاليتاري.. ملابسات دوّارة وظروف عصبية ومحن كقطع الليل المظلم.. عاش الثلاثة في خضمّها تقصم ظهورهم نسك المتهتّكين وارتكاس المتعلمين واستمر سعيد رمضان البوطي يقدم الدرس الديني، يحرس مئذنة دمشق، يجود الكلم ويلهج بالآي، يتلو السورات تلو السورات المفعمة بالإرنان والصوفية والنفس الصباحي... سورات كالكهف ومريم وطه وغافر. إن تغريدة الشيخ كانت خارج السرب، فيها خصوصية دمشقية، تراث ديني عائلي، مسحة صوفية عرفانية تبين بجلاء الطوالع فكأن الخطاب البوطي هو خطاب الرشد والاستجابة لا خطاب التمكين والاستعلاء، خطاب التلطف والرفق والرفقة لا خطاب الاستكبار والتعالي والمجافاة، فكأنه حوار في الداخل.. مناجاة للنفس ومخاشعة للدواخل، تجيش بها خواطر شيخ لم يعتل جسمه ولا انهدّ بدنه من قعدات الإصباح قبل الفلقة والانبجاس، هناك في جامع من جوامع الحارة الدمشقية أو تحت عرصة من عرصات الأمويين... صوت الدين كان، مع الشيوخ المذكورين لم يكن الخطاب بوصفه حجاب إذ يحجب فتوى ويقفز نحو أخرى في عدو وفي لهث.. بالفعل هو الصوت، الدين صوت، إنه ليس المؤسسة المشيخية، الانذارات بأهوال يوم القيامة، النذر البواطل من الأعمال المخلوطة ومخالطة أهل البغي في الدين والمذهب والاختيار والجماعة وأصحاب التأويل الفاسد. كان رحمات الله الواسعات عليه يؤقت للروحي، لزمن روحي فيديمه، يخطب في الناس رقة الدين ونعومته، المحبة وذيوع الخير بين القلوب والناس، ولم يكن درويشا ففيه من ظلال الطريقة الرفاعية وأنوارها الباطنية، فيه بدائع بديع الزمان النورسي في رسائله الزاكيات حتى أن الحق يقال إن سعيد رمضان البوطي هو مبتعث للنورسية بتيارها الكاسح لبلاد الأناضول كلمات وعبارات لم يكن أحد منا يستطيع وقفها في اللواعج والجوانح، تلج فتستقر وتقيم، شارحا لنا رسائل النور لهذا العالم التركي البحر الفهّامة العارف بأسرار الله ومخلوقاته شيخ الطريقة النورسية.. ليس البوطي تيارا أو هيكلا تنظيميا أو فكرة جمعوية أو نية تحرك ميداني، كان وظل وبقى حتى مقتله المشؤوم راهبا في المحاريب المتعطرة، متربعا عرش الكلم الطيب الوابل الصيّب، بذكاء شيخ أتاه الرب مجامع الحكمة وفنون النظر الوسيع مشتغلا على القلب، على الطريق إلى القلب مارّا مرور غير الكرام على كل حقل ومضرب ومطرح، حارثا المعاني والمفاهيم، مقلبا في الرؤى والرؤيا، حالما بخلاص بني البشر من أدران العالم وضيم وظلمة الطاغوت الأكبر وأي طاغوت أكبر من وحشة القلوب وفجيعتها في الفراغ وهجاس اليأس والفرار من الانتحار إلى الانتحار والموت كمدا من أجل عرض في الدنيا زائل. يقرأ البوطي بموقعته ضمن النورسية في العالم الإسلامي متلازما مع الرؤية المثالية التي لقّنها العلامة بديع النورسي لتلاميذه “أعوذ باللّه من الشيطان والسياسة" وما قامت شيطنة الفعل السياسي إلا لقيام جهة من هذه الأمة بترك موجبات الدنيا وفرائضها من معرفة تحصل، وتدريب على طاعة رب العمل في المصنع -ومثله ما يحدث في ماليزيا مثلا- وتنكب في الأرض لاستثمار مال واستزادة تقنية وإبحار في صنعة المتقدمين من ناس العالم الأول.. إنها رؤية إيمانية تقوية تتجنّب في مسلكها الطموحات الأيديولوجية الإسلاموية الموازية التي تاخمت بالجنب وبالمنكب الفكر الصوفي ومدارس العرفان وكذلك العمل الديني المستقلّ الذي رابط ووقف جيدا مناهضا غير مناصر.. مجادلا غير مهادن، مناظرا غير مستسلم للمنظومة المهيمنة التي استشرت تعابيرها ومفرداتها في أرجاء طنجة -جاكرتا- مخالفا مع المخالفين رفيق دربه في ملتقيات الفكر والدين يوسف القرضاوي، متجاسرا بالروح والوجدان والأنفاس مع محمد متولي الشعراوي في همسه ورمسه ومع الغزالي في أدب عبارته ولفح شوكته، شوكة محمد الغزالي وهو يغرز، يفقأ أعين سلفيين صغار باعوا روحهم وأطاعوا رومهم.. على المنحى هذا يبدو أن سياق البوطي و-البوطية- لا يجب إظهارها كفخ أو كمأزق أو كتأزيم خاصة بالنسبة لأنصار اللاّئيكية والتفكير اللاّديني فالأمر مع ثلاثتهم “الغزالي، الشعراوي، البوطي" محال إلى أدب ديني راقٍ ومنه إلى آلية وعظية غير صارمة، احتفالية واحتفائية تروم مخاطبة المخاطبين بمراعاة أحوالهم لا فكرهم ولا معتقدهم ولا طبقتهم ولا جغرافيا عيشهم ولا نمط حكمهم ومحكوميتهم، فالبوطي مثلا، وهو الأهم في هذا المساق، ظاهرة دينية حقيقية يتجلى ويجلو في منهاجه العلمي، في طرائق تفكيره، في طيات فقراته التي يسوقها لنا ضمن كتبه الكثيرة، كنقض أوهام الجدلية المادية، السلفية مرحلة زمنية مباركة، اللاّمذهبية أخطر بدعة تهدد العصر، القدر هو سيّد البشر، ضوابط المصلحة، يغني العالم الديني، رجل الجامع الوعظ، الفكر الديني العربي بمحدثات العبارة العلمية وهو يستفيد من أبي حامد الغزالي والمستصفى كذلك التأثر كامن مرجعيا من إحياء علوم الدين، ناهيك عن مقارعات الشيخ وتهريبه للمنطوق الغربي في استعانته بهيغل وفرويد وماركس ومالبرانش وهذه العبورات التي مارسها لسنوات عدة في كتاباته منحته أفضلية أفضل ومقاما أسمى في حلقة الروّاد بما يشكلونه داخل المربّع المشيخي القائم على حماية حوض الدين ورعاية مصالح ورغبات الملأ.. لقد ناظر محمد الغزالي المفكر الباحث خالد محمد خالد وغيره كعبد الرحمن الشرقاوي ومحمد التابعي وحسين هيكل وناظر القرضاوي فؤاد زكريا وجاء لسانه بالذكر لويس عوض وفرج فودة في غير ما مرة.. فيما غرقت اللحظة البوطية في المياه الماركسية، مياه الطيب تيزيني ولم يكن دأب المتلاقين المتناظرين الدأب نفسه، فالبوطي أمتن وأكثر تركيزا وتماسكا في جوانب متفرقة، ثراء الثقافة العالمية، مليح الأسلوب والعبارة، إدراك الكون وأسراره، العرفانية الصوفية وبلوغ مستوى التعرف إلى الذات عبر الذوق، شغلت مناظرة الشيخين البوطي وتيزيني المهتمين، إذ أن الثاني أيضا وقف على أرض الأصولية الماركسية مدجّجا بسلاح الدوغما ومجمل الشروح والمتون الطالعة من والنازلة عن شجرة تطورات الفكر الماركسي العربي وتطورات القوموية العربية.. يعترف الشيخ المعمم الدمشقي عوارف معارفه من فطاحل الصوفية وأحلاس المؤسّسة الذوقية، ندماء الثمالة والسكر بحب الله، من شيخنا الكبير محي الدين ابن عربي إلى الحارث المحاسبي إلى ابن عطاء اللّه السكندري ويأخذ الأخير منزلة المنازل كلها إذ لم يشرح شارح “الحكم العطائية" بمثل شرحه، تفرد فيها البوطي حتى غدت أصلا من أصول التعاليم ومسلكا من مسالك النظر والخشية والاتباع، وهي حكم بالغة وفقرات ذكية ولمعات روحية صارفة عن المجون والتكاذب والتشاوف، نار خبيئة تصطلي وتستعر في الأعماق وتنادي من الأعماق.. وهي نور لا يهدى لعاصٍ أو مارق أو نائم في خدر الجهل والجهلوت.. يفرد الشيخ لوالده قصة كاملة يرويها بوجدان وحميمية غير سالفة النظير، سماها هذا والدي، وهي رائعة حياتية عن فصل الفتى وأصله وفي والد بذر فيه حبات العلم ونثارات العلوم موصيا إياه باجتناب الشعوذة والتنجيم وعلوم الطبائعيين، ناصحه بما لا سخف فيه ولا عوج ولا أمتا.. رغم قربه للسلطان ومسكه ببراعة التأييد لبطانته في معركة دمشق التي قد تكون الأخيرة، فإن مقتلة الشيخ البوطي، الملاّ العارف باللّه تشابهت في الحدث والمباغتة لمقتل خادع مسّ الشيخ صبحي الصالح بلبنان ذات سنة ومثله احسان إلهي ظهير بباكستان وفاضل رسول بفيينا واسماعيل راجي الفاروقي بواشنطن... إن اغتيال رجالات الدين والفكر والإبداع بدعة عربية اسلامية جامحة وتقليد وحشي بربري يتوارث عليه القتلة الحقراء منذ عصر الخلفاء الراشدين، عصر الفتنة الكبرى، عصر عمر وعثمان وعلي وصولا إلى عصر عميد كلية الشريعة في دمشق الشيخ سعيد رمضان البوطي.