مباشرة بعد إعلان اغتيال العلامة محمد سعيد رمضان البوطي قفز إلى ذهني كتاب ”ممو زين”، كانت أجمل قصة حب قرأتها كمراهقة وبفضله أدخلني أستاذي في المتوسطة إلى عوالم البوطي رحمه الله، فرحت بدون تفكير أجول في القنوات الدينية علني أعثر على حصة أو حديث يتناول حياة هذا العلامة، بإمكانها مساعدتي في كتابة خبر عن رحيله. ولكن المفاجأة أن كل القنوات الدينية تجاهلت بشكل ملفت للانتباه نبأ اغتيال الشيخ البوطي، وعلى الفور انتصبت علامات الاستفهام داخل رأسي لماذا تجاهل الإعلام الديني العربي رحيل العلامة البوطي؟ لم يكن صعبا أن أحصل على إجابة لأن الصفة التي تطلق على ما يعرف بالقنوات الدينية مجاز فقط، لأن هذه القنوات ترعاها جهة واحدة هي التي تفرخ التطرف والتكفير والإرهاب، حيث يشهد العديد من طلبة العلم وأساتذة الجامعة أن كتب البوطي كانت تمنع في السعودية مثل كتابه ”كبرى اليقينيات الكونية” الذي فصل بسببه طالب أجنبي من الجامعة السعودية، لأنه في عرف الفكر الوهابي رجل ضال، فكان من العادي بل من الطبيعي جدا أن تتجاهل رحيله. الشيخ البوطي قضى حياته كلها في نبذ الفرقة والتعصب، قريبا من الصوفية النقية ومنابع الإسلام السمحة والمتسامحة، حيث يشكل الراحل أحد أهم المرجعيات الدينية في العالم الإسلامي، وصلت مؤلفاته إلى أزيد من خمسين كتابا في علم الكلام وأصول الفقه والتصوف والفلسفة والفكر والسيرة، زيادة على مئات الدروس والمحاضرات التي طافت بفكر الرجل في أرجاء العالم الإسلامي. عرف الراحل العلامة البوطي بقربه من الفكر الصوفي، وكان من المدافعين عن المذهبية الإسلامية باعتبارها مدارس حضارية في وجه دعوات الوهابية إلى ال”لا مذهبية” (أو بالأحرى إلى إدخال الفقه والفتوى إلى عالم البازار)، ومدافعا عن العقيدة السنية الأشعرية لهذا ناصبته كل الطوائف السلفية العداء وكفرته مستندة في ذلك إلى كتبه ”اللامذهبية أكبر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية” و”السلفية مرحلة زمنية مباركة وليست مذهبا إسلاميا”. عرف عنه الهدوء وقوة الحجة حتى وهو يناقش الذين كفّروه، لم تكن الشجاعة للجهة التي تقف وراء اغتياله تبني فعلتها، ذلك أن مقتل الشيخ البوطي هو بالدرجة الأولى ذو أهداف سياسية ويخدم النظام والمعارضة على حد السواء تختلف درجة الاستفادة فقط، فعكس ما يشاع عنه أنه قريب من النظام لم تثبت خطب البوطي ما يفيد ذلك، حيث سبق له أن دعا إلى ”الاستنفار من أجل الدفاع عن العرض والأرض والمقدسات” لكنه لم يقل أبدا إنه يدافع عن الأسد أو نظام الأسد، فهو كان يقف على نفس المسافة من الفرقاء، داعيا إلى لم الشمل ونبذ العنف والفوضى، وقد سبق أن أدان التفجيرات وقتل الناس والعنف المسلح كما أدان استعمال المساجد للمظاهرات. فقد كان الرجل من دعاة عدم الخلط بين السياسة والدين، ”عدم الانقياد وراء الدعوات المجهولة المصدر التي تحاول استغلال المساجد لإثارة الفتن والفوضى في سوريا”، لهذا عادته الكثير من التيارات، منها السلفية وحتى تيار الإخوان، حيث سبق للشيخ البوطي أن دفع ثمن خلافه مع الإخوان أثناء تمرد حركة الإخوان المسلمين باستهداف أحد أبنائه عام 1993، وعقب صدور كتابه ”الجهاد في الإسلام” ورغم أنه كان من الداعمين لحركة حماس في فلسطين بأن تبرع بثمن بيته للمقاومة في حصار 2005 لكن ذلك لم يشفع له عند هذا التيار، لما أقدم مرشد الإخوان في مصر على تكفيره، كما كفره القرضاوى بطريقة غير مباشرة عندما أحل دماء العلماء المساندين للنظام، وقد كان القرضاوي يخاطب البوطي بلا مشيخة، لكن البوطي لم ينف عنه المشيخة ورده عليه بأنه ينتهج ”الطريقة الغوغائية التي لا تصلح الفساد وإنما تفتح أبواب الفتنة”. كان البوطي من الشيوخ القلائل الذين أدانوا العنف المسلح والأعمال الإرهابية بشكل واضح ومباشر في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وقد نزل ضيفا على الجزائر في مناسبات عدة منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وتوالت زيارته إلى الجزائر، وكان من المباركين لسياسة المصالحة الوطنية ونتيجة لهذا كان أتباع ”الفيس” المحل يلقبونه من على منابر المساجد بالشيخ ”القوطي”، وقد نشر زعيم ما يعرف بجبهة الصحوة السلفية في الجزائر عبد الفتاح زراوي، أمس، على صفحته على الفايس بوك بيانا ”يتبرأ فيه من البوطي حيا وميتا”، ويكيل فيه الاتهامات للشيخ البوطي ويسمه بكل أنواع الكفر والابتعاد عن النهج الصحيح، على حد زعمه. رحم الله فقيد الأمة جمعاء، فلقد فقدنا باغتياله صوتا قويا من أصوات العقل والحكمة والتواضع.