لا يمكن تصور أن يقابلك أحدهم على قارعة طريق فيوقفك عارضا عليك صداقته، كأن يقول لك مثلا: هل تقبل أن أكون لك صديقاً ؟!" فمن حسن قدر الصداقة أنها تنشأ في مسار تلقائي، تنضج على صفيح الوقت، وتصقل بشموس التجارب والأحاسيس والاهتمامات المشتركة، دون أن تخضع لقرار لحظي، أو أن يضطر أحد لتسولها من آخر. هكذا نتصور مسارها ومآلاتها المختلفة والمتباينة. ذلك عندما يتعلق الأمر بالصداقة الحقيقية أو الطبيعية إن صحت التسمية. ولأننا نحيا في عصر مختلف أضحت فيه التكنولوجيا هي المساهم الأول في إعادة صياغة الأشياء وسلوك الكائنات، فإن مفهوم الصداقة أضحى له وجه آخر. حيث تلعب وسائط الاتصال الحديثة دورها في صياغة الشعور/اللاشعور تجاه مختلف أوجه التعاطي الإنساني مع مفهوم الصداقة في حد ذاته. فأضحى لنا “أصدقاء افتراضيون" في مساحة أخرى من الكون. مساحة حبال التواصل الإسفيري التي تعارف الناس على تسميتها ب«مواقع التواصل الاجتماعي"مجازا، تلك المساحة التي بدأت تتمدد في حياتنا بشكل كبير لتشكل حياة موازية (ولا أقول بديلة لأنها لا يمكن أن تسد إلا ما سقط سهوا عن حياتنا الحقيقية ولا يمكن أن تشكل بديلا حقيقيا عنها). ولم نعد نستغرب من اكتشافنا كل صباح لصديق (افتراضي) يخاطب ودنا، عبر الفيس بوك عارضا صداقته، وهنا يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، هل تقبل “فلانا" صديقا لك أجب بنعم أو ليس الآن؟. لنتخذ قرار قبول الصداقة أو تأجيلها لموعد غير مسمى بكبسة زر ! في الواقع لا أريد أن أبدو “ماضويا" في تقدير قيمة صداقة افتراضية على شبكة تضم العالم بأسره، لأن القيمة لا تخضع لمعايير الوسيلة بل لجوهر العلاقة. فكم من علاقة حقيقية انطلقت من على شاشات الإلكترون، قبل أن تتطور ويقوى عودها على الأرض الصلبة. وكم من صداقة حقيقية ظلت تنشأ في مسارها الطبيعي (التقليدي إن أردت) انتهت على شبكة الإنترنيت. حيث لم تعد أسافير الأنترنيت مواضع للتعارف فقط بل أيضاً لإنهاء تجارب حقيقية ظلت تكابد مشقات العلاقة إلى أن أنهتها كبسة زر ! هنا يدخل الإليكترون في صياغة العلاقة بشقيها، فتبدو الصداقة معلقة على حبال الافتراض/الحقيقة ! لم نعد نتبين الخيط الرفيع بين ما هو واقعي وافتراضي. وحدها مخابز التجارب تقوى على الفرز. وأمام هذا المعطى الحديث نبدو أكثر كلفة ومكابدة بين أن نحافظ على صداقتنا القديمة التي تسير بشكل طبيعي وبين تلك التي تنشأ بفعل التلصص في العالم الموازي، ولسنا أمام خيار تفضيلي بينهما فذلك درب من الوهم، بل نحن في واقع حديث أضحى يصوغ علاقاتنا في أكثر المواضع حساسية وحميمية، سيما أن هذه الشبكة المتشعبة قد كشفت عوارنا أكثر من مساهمتها في إيجاد مبررات كافية لتشعب علاقاتنا /صداقاتنا العابرة للحدود والحواجز. الكثير من التجارب كشفت كم نحن “انطوائيون" في قمة تطلعنا للتعارف. وكم نحن “انطباعيون" في قمة تعاطينا مع ما يطرح من أفكار ورؤى. فإذا كانت صداقاتنا وطبيعة علاقتنا (المباشرة) مع الأصدقاء في الغالب تخضع لمعايير المجاملة و النفاق الاجتماعي، فإن الوسائط الحديثة التي تنسج العلاقة من على بعد آلاف الأميال قد أسقطت بعضاً من تلك القيم السالبة، وبدونا أكثر صراحة وجرأة في الاختلاف أو في فضح ما يكمن في الدواخل من الأحاسيس، الأمر الذي قد يقود العلاقة إلى حتفها غير المنتظر ! بعيدا عن المقولات الممجوجة التي حفظناها -منذ الصغر - عن “أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" وهي مقولة رغم وجاهتها لا تقوى أمام أعاصير حقيقتنا المواربة خلف الادعاء. وأضحى الوقت مناسبا لإعادة التفكير في تلك المقولات التي نرددها دون وعي أو بوعي مزيف. فكم من حروب تخاض اليوم بين أصدقاء على مساحة (التواصل الاجتماعي) لتعرف مسارا واحداً: “كبسة زر" تنهي علائق دامت لعقود وربما لعمر من الصداقة بدت حقيقية طوال الوقت.