بدءا، أعترف أنني استمتعت بتحقيق على قناة الشروق الجزائرية حول “المذكرات السياسية" في الجزائر، وكان التحقيق الممضى من قبل الصحفية الشابة جهيدة رمضاني من أجمل وأحسن التحقيقات التي تابعتها خلال الفترة الأخيرة على القنوات الجزائرية بحكم حرفيته وجديته والتزامه بالهدوء والموضوعية وأخذه المسافة اللازمة تجاه ما أثير من صراعات ونزاعات حول مسألة المذكرات السياسية المرتبطة أساسا بحرب التحرير والفاعلين فيها.. وتمكنت الصحفية من تقديم وجهات نظر متعددة مع كتاب وإعلاميين وأساتذة متخصصين في هذا المجال، بالإضافة إلى ناشرين وأفراد من عائلة كتاب المذكرات المعنيين.. كما أن التحقيق اندرج في ظرف خاص ومتميز يتعلق بمرور 50 سنة على الاستقلال وما أصبحت تثيره هذه المدة حول مسألة كتابة التاريخ أو إعادة كتابته من وجهة نظر جزائرية جديدة، لكن ماذا يقصد بوجهة نظر جزائرية جديدة؟! في السابق كانت تعني وجهة النظر الرسمية وكانت ثمة محاولات في هذا الاتجاه خاصة في فترة الشاذلي بن جديد بحيث كانت هناك دعاية كبرى من قبل وزارة المجاهدين ومنظمات جبهة التحرير تتعلق بجمع الشهادات التي قد تفيد في كتابة التاريخ كتابة بديلة عن الكتابة الفرنسية، لكن ذلك ظل على مستوى الخطاب، فحتى الكتابات التي تمت برعاية السلطة ظلت تفتقر إلى العلمية والجدية وظلت حبيسة الرؤية الإيديولوجية الرسمية.. ولاحظنا أن كتابات مثل أعمال محمد حربي وبنجمان ستورا وايف كوريي الصحفية ظلت ممنوعة في الجزائر وذلك إلى غاية نهاية الثمانينيات، بحيث جاء المناخ الجديد الذي وفرته أحداث أكتوبر 88 وميلاد التعددية مساعدا ومشجعا لتوفر مثل هذه الكتابات وإعادة طبعها بالجزائر. كما أن هذه الفترة الناشئة دفعت العديد من الكتاب والمسؤولين السابقين في التوجه نحو كتابة المذكرات لسد فراغ كبير يتعلق بالذاكرة الجزائرية أثناء وبعد حرب التحرير.. وكان عمل بلعيد عبد السلام المهم “الصدفة والتاريخ" الذي أنجزه معه كل من الجامعيين علي الكنز ومحفوظ بنون يشكل ركيزة مهمة في الاقتراب من مسار الحركة الوطنية ومن المسيرة السياسية للدولة الوطنية، صدر الكتاب عام 1989 عن “ليناغ"، لكنه للأسف لم يثر نقاشا واسعا بحكم الظروف السياسية التي وسمت حقبة نهاية الثمانينيات وحقبة التسعينيات بحيث غلبت الصراعات والسجالات بين الأحزاب، وحول صعود الإسلام الراديكالي وكان ذلك على حساب النقاش الفكري والثقافي، لذا نستطيع القول أن الكتاب صدر في غفلة عن الصحافيين والجامعيين والمثقفين، ونفس المصير لقيته عديد الكتابات في هذا المجال، منها “السنوات الحمراء" للوزيرة السابقة والقاضية ليلى عسلاوي، وهو عبارة عن شهادة مهمة عن لحظات حرجة عرفتها السلطة والمجتمع في الجزائر.. ومذكرات الدكتور محي الدين عميمور عن الشاذلي، وكذلك عن هواري بومدين، ومذكرات الإصلاحي المنتمي إلى جمعية العلماء المسلمين الشيخ خير الدين التي صدرت في جزئين، ومذكرات كفاح لتوفيق المدني التي وجدت تضييقا في الثمانينيات من طرف جهات نافذة في السلطة كانت مقربة من الشاذلي بن جديد، ويوميات مالك بن نبي التي صدرت بعد وفاته لكنها قوبلت بصمت وتجاهل، ومذكرات الوزيرة السابقة والكاتبة الروائية الفذة السيدة زهور ونيسي، بالإضافة إلى شهادات العديد ممن كانوا فاعلين في حرب التحرير في مختلف الولايات والمناطق وشخصيات رئيسية مثل لخضر بورقعة المليئة بالمعلومات الخطيرة.. ولم تثر مثل هذه المذكرات المنشورة ضجيجا إلا القليل منها، وهذا لأهمية المواقع التي شغلها أصحابها والمرتبطة بالراهن السياسي بشكل مباشر أو غير مباشر، نذكر منها، الجنرال خالد نزار المحسوب على جماعة الانقلابيين الذين أوقفوا المسار الانتخابي في بداية التسعينيات، ومذكرات علي كافي التي أثارت جدلا سياسيا وإيديولوجيا مرتبطا بتوجهات الرجل أكثر منه جدلا مرتبطا بالعمل نفسه، وإلى حد ما مذكرات الزبيري التي أثارت بعض ردود الفعل من طرف رفاقه الذين اختلفوا معه في النظر إلى ذات المرحلة الحساسة التي تناولها، منها محاولة انقلابه الفاشلة ضد العقيد هواري بومدين، بل حتى مذكرات الشاذلي التي صدر الجزء الأول منها في انتظار الجزء الثاني، لم تثر نقاشا حقيقيا لأنها توقفت في نهاية التسعينيات من جهة، وما كان منتظرا هو أن يكشف الشاذلي عن معلومات لازالت طي الغيب فيما يتعلق بفترة حكمه، من مجيئه إلى السلطة إلى لحظة رحيله عنها.. إن مثل هذا الاتجاه وهو الإقبال على كتابة المذكرات دونما شك يوفر أرضية للتراكم المعرفي والمعلوماتي، وهذا ما من شأنه أن يفتح الباب أمام أكثر من وجهة نظر قد تساعدنا على إعادة القراءة للأحداث الماضية بأعين جديدة.. وأرى أن التحقيق الذي أمضته الزميلة جهيدة رمضاني، والذي كان تحت إشراف عبد النور بوخمخم هو خطوة على مستوى الميديا للدفع قدما نحو مناقشة مسائل كتابة تاريخنا القديم منه أو القريب بعقلية جديدة تستند إلى الحرفية والمعرفة بدل الإيديولوجية والسياسة بمعناهما المبسط والمبتذل.