ومن العلماء الذين قاموا آنذاك بحركات الشيخ محمد بن علي السنوسي الخطابي المولود بنواحي مستغانم سنة 1202ه 1787 م وقد سميت الطريقة باسمه وعن علاقتها وهي ذات الطابع الصوفي مع الوهابية يقول الكاتب عباس محمود العقاد: "تتشابهان في حماسة الدعوات وفي نبذ البدع والخرافات والرجوع بالإسلام إلى الكتاب والسنة ولكنهما تختلفان بعد ذلك في أمور كثيرة" والسنوسي رحل نحو الحجاز لأداء الحج وحينها كانت الوهابية في انطلاقتها. هؤلاء العلماء ظهروا في وقت طبعته المظاهر التي أشرنا إليها ولقد قال المؤرخ محمد غالم: "و في مثل هذه الظروف العصيبة، لا يعقل أن تنمو حركة فكرية تقوم على نهضة علمية حقة تدفع المثقفين إلى اكتساب المعارف وإنتاجها على نحو يمكنهم من تحليل الوقائع البشرية والطبيعية تحليلا علميا وتفسيرها تفسيرا عقلانيا". لقد برز في الجزائر رغم المحن الرهيبة التي توجها الاستعمار الفرنسي روادا سبقوا الدعوات التجديدية التي باشرها الأفغاني ومحمد عبده وأمثالهما، ومن أبرز هؤلاء رواد ثلاثة هم ابن العنابي وحمدان خوجة والأمير عبد القادر، يقول الدكتور سعد الله: "والواقع أنني بعد أن درست ابن العنابي تأكدت أنه يحق للجزائر الحديثة أن تفتخر به وبأمثاله كحمدان خوجة الذين سبقوا علماء العربية والإسلام في طرح قضية التجديد والإصلاح الاجتماعي والسياسي قبل أن يطرحها أمثال الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، فليس للجزائر أن تفتخر إلا بقائمة الشهداء الطويلة لأن لها أيضا في قائمة العلماء والمثقفين مفخرة وأي مفخرة". وابن العنابي المجدد كان ملتزما في الأصول بالنقل، ففي مسألة عقيدية عن رؤية الله تعالى في الآخرة بالأبصار وبعد عرض ما قاله المعتزلة وما قاله أهل السنة، قال عن رأي المعتزلة: "ونحن لا نقول به لضيق مجاله فنسلمه لأربابه، سالكين مسلك الجمهور من أهل السنة لوضوح أدلتهم" وتعرض إلى بعض السلوكات فانتقدها بشدة، ومنها ما يتصل بالدراويش أو الزنادقة بتسميته لهم ويقول سعد الله أنهم كانوا: "يشكلون حجر عثرة في طريق تقدم الإسلام وأهله، وقد عانت منهم الدولة العثمانية أشد المعاناة عندمت وقفوا في طريق إلغاء الانكشارية ونحوه من النظم البالية، وعندما عارضوا كل تقدم كانت الدولة ستأخذ به من أجل تطوير المجتمع". بخصوص موقف بعض الدراويش في المؤاخاة بين الرجل والمرأة في الله واتخاذ ذلك مطية لمخالفة الشرع، قال ابن العنابي: "ومن استحل الحرام القطعي الذي يعلمه كل أحد من أهل الإسلام فإنه يصير كافرا، فإن غلب على فاعل ذلك الجهل والغباوة فإنه يزجر عنه، وتكشف شبهته، فإن انتهى فذاك المراد وإن أبا إلا تماديا على ضلاله وغيه فيجب على أمراء الإسلام قتله وإراحة المسلمين من شره لظهور زندقته، والزنديق إذا أخذ قبل التوبة قتل ولا تقبل توبته. ورفع فساد هؤلاء الزنادقة الذين أدخلوا على الإسلام وأهله أعظم الفساد والشر من أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى فهو من أعظم الجهاد، ولاتغتر بما يظهرونه من الإصلاح والنسك فإنه من مكر الزندقة وخداعها أخزاهم الله وأبعدهم وسلط عليهم من ملوك الإسلام الذابين عن حمى شريعة سيد المرسلين من يشتت شملهم ويحسم مادة فتنتهم وشرهم". ومن القرن التاسع عشر برزت عدة أسماء كالمولود بن موهوب وصالح بن مهنا وعبد القادر المجاوي والمكي بن باديس ومصطفى بن الخوجة وعمر بن قدور ليتواصل التراكم إلى جمعية العلماء. كانت هناك اتصالات وتفاعلات مع تيارات كالوهابية من خلال بعثات الحج ومن خلال الدراسة بالجامعات الإسلامية. عن الوهابية قال المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي: "إن تأثيرها الديني ملموس في كافة أنحاء إفريقيا والهند والملايو". ويذكر محمد عابد الجابري الأصداء الإيجابية "التي كانت للدعوة الوهابية في وقت مبكر في أوساط المخزن وأوساط القرويين من جهة، وذلك النفور بل المعارضة التي لقيتها لدى الطرفين، المخزن وفقهاء القرويين، النصائح بل الضغوط الأوروبية الداعية إلى القيام بتحديث أجهزة الدولة ونظمها من جهة أخرى"، وقد قام علماء الجزائر الذين ذكرناهم بمعارك ضد البدع وضد ما لاحظوا فيه مسا بالدين، فإبن الموهوب حاضر ضد البدع، وصالح بن مهنا كتب رسالة "تنبيه المغتربين في الرد على إخوان الشياطين" وكان للرسالة أثارا كبيرة وقال: "إن من خالف السنة والشرع غير معتبر ولو كان مدعيا للصلاح أو الشرف أو العلم. وأن الشريف الفاسق لا يعتبر حتى ولو أنكر ذلك بعض الأراذل ممن قرأ مسألتين، وتعلم باب مسح الخفين". وكتب في ذلك المجاوي وقال الدكتور رابح تركي عن بن سماية بأنه "من العلماء القلائل الذين نشروا الفكرة السلفية في الجزائر، وكان يدرس - رسالة التوحيد - للشيخ محمد عبده". وعندما نعود إلى هذا التراث وإلى تراث جمعية العلماء سنجد أن هناك اختلافا عن الوهابية وما أنتجته كحركة، فالعلماء الذين ذكرناهم مجددين وهم يفهمون السلفية كالتزام بالسنة التي تجسدت في سيرة السلف، فهما مستوعبا للمتغيرات وللموازنات. الوهابية كتيار ظهرت في بيئة شبه الجزيرة العربية وكان لها مدها كما سجل الباحثون في مناطق تحيا أوضاعا تجلى فيها الانحطاط والهشاشة، الأمر الذي جعل المفكر الجابري في حواره مع المفكر حسن حنفي الذي تحدث في إحدى حلقاته عن أثر الثورة الفرنسية على العالم العربي، فرد الجابري بأن الحركة التي كان لها حضورا في كثير من البلدان العربية ولها صدى واسع في القرنين 18 و19: "هي الحركة الوهابية التي قامت قبل الثورة الفرنسية باثنتين وأربعين سنة، حينما تحالف محمد بن عبد الوهاب مع أمراء آل سعود عام 1747"، وقال: "إن تأثير الحركة الوهابية زمن الثورة الفرنسية كان يضاهي تأثير هذه الثورة الفرنسية في الأقطار الأوروبية، بل لربما كان أقوى"، وذكر حركات مماثلة تشكل امتدادا للوهابية في عدة أقطار عربية كدعوة الإمام الشوكاني 1758 1843 في اليمن وتبني الدولة في المغرب الأقصى للوهابية، والسنوسية في ليبيا "والتي انتشرت زواياها في كل من السودان ومصر وبلاد العرب"، وكان للوهابية حضور ما في فكر محمد عبده وفي فكر خصومه المتزمتين، ويقول: "وهكذا فالساحة العربية، من المحيط إلى الخليج، كانت واقعة تحت تأثير الوهابية السنوسية والمهدية والسلفية زمن الثورة الفرنسية وزمن امتداداتها". أما حركة التنوير فكانت كما ذكر: "محصورة في مصر والشام وحدهما، وأصداؤها في الأقطار العربية الأخرى كانت من الضعف بحيث لا يمكن مقارنتها مع أصداء الحركة الوهابية ومثيلاتها"، وذكر أن حركة التنوير حتى في مصر كانت "محصورة في نخبة ضيقة، هي النخبة العصرية التي لا مجال لمقارنتها مع النخبة التقليدية والأغلبية العظمى من الجماهير التي كانت وما زالت مرتبطة بها"، وعن التأثير في المغرب يذكر الجابري أن الوهابية أصبحت أساسا أيديولوجيا وسلاحا يقاوم به المخزن "خصومه في الداخل، الذين كانوا أساسا من مشايخ الطرق، وأحد خصومه في الخارج، أعني الحكم التركي في الجزائر"، ويذكر بأن السلطان محمد بن عبد الله 1757 1790 مثل اتجاها دينيا سلفيا شكل الملامح الأولى للوهابية في المغرب، فقد كان ينهي عن قراءة كتب التوحيد الأشعرية ويحض على مذهب السلف في الأخذ بظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل وكان يقول: "إنه مالكي مذهبا، حنبلي اعتقادا" واتبعه ابنه السلطان سليمان 1792 1822 الذي خلف أخاه اليزيد 1790 1792 والأخير تبنى الوهابية وراسل القائم بها في الحجاز الأمير عبد الله بن سعود، الذي راسل السلطان سليمان برسالة تبيين للوهابية ودعوة إليها وتم تقبل الرسالة بشكل إيجابي. ويبين الجابري البعد الوظيفي لقبول الوهابية عند المخزن ويذكر كيفية تعامل السلطان سليمان أيضا مع بعض الطرق الصوفية كالتيجانية التي اعتنقها بعض كبار حاشيته وهذا "ليس لأن هذه الطريقة كانت تلتقي مع الوهابية في النهي عن زيارة الأضرحة مثلا، بل أيضا لأن أتباع الطريقة التيجانية في الجزائر حيث نشأت كانوا يومها ضد الأتراك وحكمهم"، ولما "ثار أتباع الطريقة الدرقاوية في تلمسان على الحاكم التركي، باي وهران، واستنجدوا بالسلطان سليمان وأعلنوا مبايعته، صارت حظوة الطريقة الدرقاوية لدى المخزن تغطي على الطريقة التيجانية ونفوذها"، وهذا ما سيتكرر في المراحل القادمة عندما تم توظيف التيارات السلفية والإخوانية والطرقية وغيرها، توظيفا براغماتيا، وتم استعمالها تاكتيكيا سواء لضرب تيارات أخرى أو لتجنيد أتباع أو لتحييد قوى أو لترتيب توازنات. والملاحظ أنه في المراحل السابقة كانت هناك تداخلات لا تسمح حتى إجرائيا بتنميط أو قولبة شخصيات وحركات في أنماط وقوالب محددة وهو ما يستدعي حذرا حتى لا نقع في مغالطات ناجمة عن التسرع. «يتبع"