الحلقة الثانية ما ساد كان انعكاسا لوضع الانحطاط الذي من تجلياته التراجيدية سقوط الأندلس التي سادتها في أواخر عهودها مظاهر ناطقة بالانقراض الذي كان ينمو في أحشاء الكيان. وبما أن الخطر أصبح مهددا للكينونة بعد أن جمّد الصيرورة، صار الدين هو الملاذ والحصن، ذلك ما ميّز الموريسكيين أي المسلمين الذين استمر وجودهم في الأندلس بعد زوال طابعها الإسلامي، الذين اضطروا تحت وطأة الاضطهاد إلى التخفي وإلى تدوين مرجعيتهم بلغة أبدعوها تكيفا مع واقعهم وهي "الألخميادو" أي الأعجمية وتم اعتماد العامية اللاتينية وبالضبط اللهجات المنتشرة في مناطق التواجد الموريسكي "البرتغالية والقشتالية والكطلانية والأرغونية" وكتبت بحروف عربية، وعن تلك الآثار وما يميزها، يسجل الدكتور عبد الله حمادي: "طغيان الكتابات الدينية فيها على بقية الأنواع الأخرى، وذلك لما في دور الدين من قاسم مشترك يربط بين مختلف الأقليات الموريسكية، التي ترى فيه أحد المقومات الأساسية لإبراز شخصيتها الذي في مقدوره وقايتهم من مغبة الإنسلاخ والذوبان والرضوخ لإرادة الخصم العاتي". يقول الكاتب المغربي محمد حمزة شريف الكتاني: "إن اللغات المحلية، التي كانت تسمى الأعجمية "ألخاميادو"، وهي: البلنسية، والقطلانية، والأرغونية، والكاستيانو (القشتالية) دونت أول ما دونت بالحرف العربي، بحيث هناك تراث هائل موجود إلى الآن لتلك اللغات واللهجات، استمر إلى نحو القرن الثامن عشر الميلادي، مدون بالحرف العربي وباللغات واللهجات المحلية، كله في التاريخ والفقه والشريعة الإسلامية، إذ كانت الكنيسة الكاثوليكية تمنع الكتابة بغير اللغة اللاتينية. ويشكل هذا التراث رافدا مهما للإسبان من أجل مزيد الاطلاع والمعرفة لتاريخهم وحضارتهم، ويحتم عليهم الاعتراف بالخط العربي كخط إسباني أصلي يدرس في مختلف المعاهد والمرافق". ولكن الانحطاط مع الحماس يولد سلوكات قد تنحرف تفريطا أو إفراطا، وهذا ما تصدى له علماء ومصلحون. ومن أشكال وآليات الاحتماء الاهتمام بالحديث وعلمائه، ولم يكن الحديث كما ذكر الدكتور سعد الله: "يدرس لذاته فقط بل كان يدرس أيضا للعمل به في مجالات المعرفة المختلفة"، وفي ضوء ذلك دراسة الطب النبوي ومن التآليف التي ذكرها سعد الله "المنهل الأصفى في شرح ما تمس الحاجة إليه من ألفاظ الشفا" لمحمد بن علي بن أبي الشرف التلمساني وهو عن كتاب الشفا للقاضي عياض. ولقد توجه ابن أبي الشرف إلى مكةالمكرمة التي كان موجودا بها سنة 930 ه وهناك انقطعت أخباره، وكتب العلامة أحمد المقري "فتح المتعال في مدح النعال" وهو عن نعال النبي "ص" ألفه بالمدينة المنورة وكتب عن عمامة وملابس النبي كتاب "أزهار الكمامة في أخبار العمامة ونبذة عن ملابس المخصوص بالإسراء والإمامة" وكتب عن الأسماء النبوية "الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين"، وقال عبد الرحمن بن عبد القادر المجاجي: "علم الحديث من أجل العلوم قدرا، وأعلاها منزلة وخطرا" ولقد كتب "فتح الباري في ضبط ألفاظ الأحاديث التي اختصرها العارف بالله ابن أبي جمرة من صحيح البخاري" ولصحيح البخاري أهمية كبرى إذ كان يقرأ ويختم كل سنة كما هو الحال في الجامع الكبير بالعاصمة. ولكن ما يطبع التأليف في علوم الحديث هو الخلو إلا كما يقول سعد الله: "من بعض الأمور التقليدية مثل الشروح والحواشي والرسائل الصغيرة والأراجيز". كانت بعض الفتاوى عاكسة للعصر بملابساته فمحمد شقرون الوهراني في كتابه "الجيش الكمين لقتال من كفر عامة المسلمين" وتناول فيه قضية لها ارتباط بما انتشر في عهد الانحطاط، قضية عقيدة المقلد الذي لا يمتلك مؤهلات معرفة الله بالبراهين ولقد أثار الوهراني الخلاف حول الحكم المترتب فهناك من حكموا بكفر يمس عامة المسلمين لأنهم رهائن التقليد وبالتالي ما يترتب عن الكفر المذكور وكان موقف العلامة الوهراني عكس ذلك أي صحة إيمان العامة المقلدين مثبتا آراء العلماء وبعد العرض تبنى الرأي الذي هو رأي أهل السنة، ردا على ما يقوله المعتزلة وأمثالهم ممن ركزوا على معامل العقل، وتلقى الوهراني تأييد أربعة علماء من تلمسان.. وهو من العلماء الذين جسدوا الموازنة بين الأحكام والمقاصد فقد أفتى لمن بقي من المسلمين في الأندلس بالبقاء وكتمان إسلامهم. ومن القضايا التي أثيرت آنذاك قضية التدخين التي تناولها أحمد المقري وعبد الكريم الفكون وعبد القادر الراشدي، وهذا ما يعكس تفاعلا مع التحولات، وسادت آنذاك معاركا تثار راهنا فمثلا كانت المسلكية الشائعة في العقيدة هي الأشعرية وكانت مؤلفات محمد بن يوسف السنوسي هي المعتمدة. وثارت اتهامات بالكفر والزندقة وممن كان محل هذا الاتهام مفتي قسنطينة عبد القادر الراشدي لقوله بالتجسيم، ومن العلماء الكبار الذين كان لهم شأنا ويقال إنه رائد توصيل الدعوة الوهابية إلى الجزائر الشيخ محمد أبو راس الناصري، الذي التقى أثناء حجه ببعض تلاميذ وأبناء محمد بن عبد الوهاب وتحاور معهم وكان من الحضور وفد حجاج مغاربة بقيادة ولي العهد ونوه الناصري بابن عبد الوهاب في رحلته والناصري كتب عن سيرته وهو من مواليد سنة 1150 ه 1737 م وتوفي سنة 1238 ه 1823 م وهو من أكثر المؤلفين إنتاجا في مختلف فنون المعرفة السائدة في عصره، وكانت له آراء متميزة بخصوص الثورة الفرنسية التي عاصرها، ويقول الناصري عن لقائه ذلك في سيرته المذكورة: "ولما ذهبت للحج سنة ست وعشرين "أي سنة 1226 ه 1811م" التقيت علماء الوهابية "وهم تسعة علماء أكابر جماهير، وأفضلهم "الشيخ علي تاسعهم" فوقع لي معهم مناظرة ومباحثة واعتراضات وأسئلة وأجوبة فائقات، ودلائل قاطعات، وأحاديث مروية عن أكابر الأئمة من الأمهات" ثم تناظرنا "بعد صلاة العصر قبالة "الحجر" في "صلاة العصر" وقراءة "دليل الخيرات" والتسبيح بالسبحة ومشاهد السادات، وهدم "مباني الأولياء ذوي الكرامات" فرجعوا عن البعض بعد الاستدلال بالنصوص العظيمة العميمة. وكان ظني فيهم أنهم حنابلة المذهب، ففاوضتهم في "قصر الصلاة" فقلت: إن الإمام أحمد بن حنبل عنده نية إقامة أربعة أيام صحاح تقطع أحكام السفر، فقالوا: عندنا "القصر" لا ينقطع ما دام السفر، فعلمت أنهم خارجون عن المذاهب الأربعة في الفروع، وأما في العقائد فهم على ما عليه الإمام أحمد" وهكذا نرى عدم دقة ما ذكره الدكتور عبد الحليم عويس، بعد استناده على دراسة الشيخ البوعبدلي، فالدكتور عويس يقول: "وكان أول من حمل الدعوة إلى الجزائر المؤرخ الجزائري أبو راس الناصري" وذكر أنه بعد اجتماعه بالوهابيين اقتنع بالحركة. أبو راس في سيرته ذكر عزوفه عن شيخ يدّعي إشارات غيب وذكر عينات كالشيخ أبو العباس أحمد بن أبي محلي، الذي رغم ثورته على البدع إدعى المهدوية وكان يقول لأصحابه: "أنتم أفضل من الصحابة لأنكم قمتم بنصرة الحق في زمن الباطل وهم قاموا بنصره في زمن الحق" ولقد قتل عام 1023 ه 1613م ولم يعجب منحاه تلميذه الشيخ سعيد قدورة فألف كتابين هما "الأصلين، في قطع حلقوم العفريت النفريت" و«منجنيق الصخور، في هدّ بناء شيخ الغرور" وكتبهما بعد فشله في رد الشيخ بالموعظة، ويعلق أبو راس على الكتابين: "أبدع فيهما غاية الإبداع وقرع بهما الأفئدة والأسماع فكان أجل من عمل بحديث رسول الإله، وهو إذا ظهرت البدع وسكت العالم لعنه الله" وقد قال صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس بن مالك: "كيف بك إذا عشت حتى تظهر البدع، وتصير عندهم من الأمر الحسن وأهدى السنن فإذا تركتها قالوا: هذا أنس صاحب رسول الله ترك السنن فيعيبونك بما هو لك حسن؟" وعلق المرحوم المؤرخ المحقق الدكتور محمد بن عبد الكريم في الهوامش بخصوص الحديث الأول الذي ذكره الناصري: "لم نعثر على نص هذا الحديث في كتب الحديث، وإنما روى ابن عساكر عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ظهرت البدع ولعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فلينشره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محّمد" ومما يلفت النظر إلى أبي راس أنه رغم جمعه بين الفقه والتصوف كان منتصرا كما يقول الدكتور سعد الله: "لأهل السلطة ضد أهل التصوف عندما قامت الطريقة الدرقاوية بثورتها المعلومة ضد بايات الغرب الجزائري" ويشير إلى مقاطعته لشيخه محمد بن أبي طالب في مازونة لما يدّعيه من إشارات غيب وعاب على سيدي الشيخ وهو عبد القادر السماحي صاحب الطريقة الشيخية مكاشفاته وتآليف منسوب إليه رغم عدم معاصرته له ويذكر الشيخ الناصري من أخبار رحلاته ما جرى له في مجلس بفاس إذ قال "صحة" لشارب فضحكوا منه فقال لهم: "ما سندكم في ترك هذا الأدب؟" قالوا: "تلك عادتنا، فقلت: لما تستدلوا بنقل على ذلك فقالوا بأجمعهم: وأي نقل في هذا؟ فقلت: إن شهاب الدين الخفاجي نصّ على السنة، وصاحب المدخل نصّ على البدعة، وأنتم لم تحفظوا من هذين النقلين قط واعتمدتم على العادة الشنيعة فقط" ثم لما سئل عن سنده أورد تفاصيلا. يتبع