السلفية ارتبطت راهنا بتيار معين وتركزت خصوصا عند أتباع ما يسمى بالوهابية والتسمية شاعت خطأ لأن صاحب الحركة يسمى محمد، أما والده فهو عبد الوهاب . عندما نعود إلى بلادنا نطرح السؤال عن مسار السلفية كتوجه، هل هي تأثر بالوهابية؟ أم أن هناك إسنادات وحيثيات أخرى؟ الشيخ مبارك ميلي، في كتابه "تاريخ الجزائر في القديم والحديث"، ذكر عن دولة المرابطين ومؤسسها عبد الله بن ياسين فقال: "وكان متحريا لأكل الحلال، وله فتاوى شاذة ونوادر تدل على شدته في الحق" ص 282 الجزء الثاني . في العدد 53 من مجلة الأصالة "العدد صادر في صفر 1398ه« كتب المؤرخ المرحوم الشيخ المهدي البوعبدلي، دراسة بعنوان "عبد الرحمن الأخضري وأطوار السلفية في الجزائر" والمرحوم كان عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى وينتمي إلى زاوية معروفة ببطيوة في نواحي وهران وله صلة بجمعية العلماء، ذكر في دراسته بأن الدعوة السلفية: (لا تزيد عن كونها التطبيق الصحيح للحديث النبوي الشريف الذي ورد على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع حين قال: "تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) ويذهب الشيخ البوعبدلي إلى تجذر السلفية بهذا المعنى في الجزائر، ولم تبرز كاتجاه قائم بذاته إلا بعد تفشي البدع وغلو بعض المتصوفة فظهر رد الفعل. وتعود الخلفيات حسب هذا المؤرخ والفقيه إلى الفقيه أبي الفضل النحوي دفين قلعة بني حماد العاصمة الأولى لدولة بني حماد الزيرية الصنهاجية وهو من علماء القرن الخامس الهجري، ثم ظهر في القرنين السابع والثامن الهجريين مصلح آخر هو أبو الحسن علي بن عبد الحق الزويلي عام 719 ه. وتابعه تلميذه الحافظ ابن مرزوق الحفيد من علماء القرن الثامن ولقد أشاد بشيخه. ورد ابن مرزوق على معاصر له هو قاسم العقباني التلمساني، الذي كتب رسالة تحمل الدفاع عن المتصوفة وحمل رد ابن مرزوق عنوان "النصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكمال الناقص" وقامت بين علماء تلك المرحلة معارك كالتي عرفها النصف الأول من القرن العشرين بين الإصلاحيين والطرقيين، وضمن المضان تفاصيل عن هذه المعارك ومنها كتب النوازل ك "الدرر المكنونة في نوازل مازونة" و«المعيار" لأحمد بن يحيى الوانشريسي.. وممن شاركوا في المعارك عبد الرحمن الوغليسي من فقهاء بجاية وسعيد العقباني التلمساني وعيسى الغبريني البجائي ابن أحمد الغبريني صاحب كتاب "عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء بالمائة السابعة ببجاية". وفي القرنين التاسع والعاشر للهجرة، كانت بجاية مركزا للتوجه السلفي وبالضبط معهد بها هو معهد يحيى العبدلي، الذي برز فيه عالم اسمه أحمد زروق الذي أقام في تلمسان والعاصمة وقسنطينة، وكرد فعل على ما تفشى من بدع وتسيب، تحرك زروق العالم بالحديث والفقه والتفسير فأثر في تلاميذه ومنهم ابن علي الخروبي دفين الجزائر الذي وسع دائرة التأثير في أسرة ستنجب أحد أكبر العلماء وأحد رموز السلفية وهو عبد الرحمن الأخضري المتوفي سنة 953 ه. والأخضري عاش فترة اضطرابات وسقوط مدن ساحلية في قبضة الإسبان وتفشي الفوضى دينيا واجتماعيا وسياسيا، وكان لذلك الأخضري حازما في تصديه وهو العالم الذي كتب في فروع مختلفة وفاق ما كتبه 30 كتابا، وكتب قصائدا منها "القدسية" التي تضمنت 357 بيت، وقال فيها عن المتصوفة الذين خالفوا المنهج السلفي: قد ادعوا مراتبا جليلة والشرع قد تجنبوا سبيله قد نبذوا شريعة الرسول فالقوم قد حادوا عن السبيل لم يدخلوا دائرة الطريقة فضلا عن دائرة الحقيقة لم يقتدوا بسيد الأنام فخرجوا عن ملة الإسلام قد ملكت قلوبهم أوهام فالقوم إبليس لهم إمام كفاك من جميعهم خيانة إذ ختلوا الدنيا بالديانة وقال: من كان في نيل الأماني راجيا وعن شريعة الرسول نائيا فإنه ملتبس مفتون وعقله مختبل مجنون ولكن الأخضري يستثني الذين التزموا بالصراط الشرعي فقال: وأعلم بأن الولي الرباني لتابع السنة والقرآن والفرق بين الإفك والصواب معرفة بالسنة والكتاب والشرع ميزان الأمور كلها لأصلها وفرعها والشرع نور الحق منه قد بدا فانفجرت منه ينابيع الهدى ويصف زمنه قائلا: هذا زمان كثرت فيه البدع واضطربت عليه أمواج الخدع وخسفت شمس الهدى وأفلت من بعدما قد بزغت وكملت ونظرا لمكانة الأخضري فإن منظومته كانت محل شروحات، منها شرح حسين الورتيلاني. ثم توالى أعلام كالشيخ عبد الكريم بن الفكون القسنطيني المتوفي سنة 1073 ه وهو صاحب كتاب "منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية" وقد حققه الدكتور أبو القاسم سعد الله. كما ظهرت منظومات كمنظومة الأخضري ومنها تلك التي نظمها عبد الرحمن بن محمد بن علي المجاجي ومنظومة "سبيكة العقيان فيمن حل بمستغانم وأحوازها من الأعيان" للشيخ محمد بن حواء من علماء القرن الثاني عشر. وهناك الشيخ محمد بن عبد الله الجلالي الذي راسل صديقه أحمد التيجاني وباعث الرسالة ما بلغه من الأخير عن عزمه على تأسيس طريقته التيجانية، فتحرك مراسلا له برسالة تضمنت النهي عن ذلك والحث عن الاقتداء بالسلف ولكن لم تكن للرسالة جدوى وأنشأ الشيخ التيجاني طريقته التي سيكون لها شأنا في تاريخ الطرق. ولقد سلك بعض المصلحين مسارا أعلنوا فيه رغبة تخليص التصوف من الشوائب وربطه بالشرع لأنه المعيار ولقد قال الأخضري: وقال بعض السادة الصوفية مقالة جليلة صفية إذا رأيت رجلا يطير أو فوق ماء البحر قد يسير ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج وبدعي وكتب أحمد زروق كتبا مثل "قواعد التصوف" و«أصول الطريقة" و«كتاب البدع". ولقد تميزت تلك الفترات بتحولات وصراعات وهزات والحملات التي تتابعت بعد سقوط آخر المدن الأندلسية في عام 1492 ثم قيام الحكم العثماني سنة 1516. والمرحلة ككل جاءت بعد تراجع المجتمعات الإسلامية والجمود الذي ساد ومعه تفشي الكثير من الخرافات والبدع، وفي الجزائر مثلا يكتب الدكتور أبو القاسم سعد الله، عما ميّز العهد العثماني فيقول عن الإنتاج في العلوم الشرعية بأنه كان "يفتقر إلى الأصالة والجدة" وأن أهم مميزاتها "التقليد والتكرار والحفظ. فالفقهاء قلما اجتهدوا أو استقاموا بأرائهم بل كانوا يقلدون سابقيهم تقليدا يكاد يكون أعمى فإذا ما حاول أحدهم أن يشذ عن هذا التيار أقاموا عليه الدنيا وأقعدوها، واجتمع عليه المجلس الشرعي الذي كانت تتدخل فيه الدولة. وفي أحسن الأحوال كان يحكم على المستقل برأيه بعزله من وظيفته. أما في أحسن الأحوال فالحكم عليه بالتكفير والزندقة" ولكن يسجل محاولة البعض تحطيم هذا الجدار ويذكر منهم عبد الكريم بن الفكون في القرن 11ه 17م وأحمد بن عمار في القرن الثاني عشر الهجري ومحمد بن العنابي في أوائل القرن 13ه. فابن الفكون سجل على صديقه أحمد المقري "عدم دقته العلمية واعتماده على الحفظ"، وقال: "العلم ليس بكثرة الرواية وإنما هو ما يظهر عند الحاجة إليه في الفتوى من الدراية، وأن السرد للمعلومات إنما حدث عند فساد القلوب بطلب الظهور والتعالي عن الأقران وكثرة الرياء في الأعمال" وأحمد المقري المذكور كان يوصف بأنه من أعلام عصره وبأنه أحفظ أهل زمانه، والحفظ كان آنذاك هو المعيار المعتمد غالبا. يتبع