لم يعد مقبولا اعتقاد البعض أن قصيري القامة معاقون جسديا أو عاجزون عن أداء بعض الأعمال، لعدم امتلاكهم البنيات الجسدية الكاملة، بعد أن كسر الكثير منهم حواجز الشعور بالنقص، وتمكنت أغلبيتهم من إبراز مواهب فذة في مختلف المجالات الأدبية والعلمية والسياسية والفنية، والتاريخ يؤكد أن "كل قصير عظيم".. أو بالأحرى أن أغلب العظماء كانوا من قصار القامة، سواء من الزعماء أو القادة العسكريين أو الأدباء والمفكرين ومشاهير الفن والرياضة. وعبر هذه السطور.. نروي حكايات عدد من هؤلاء ومسيرة صعودهم، وكيف أصبحوا عظماء وإن اختلف البعض حولهم.. فتابعونا حلقة بعد أخرى. ولد بابلو رويز... المعروف بدءا من العام 1898 باسم بيكاسو في 25 أكتوبر العام 1881 في مدينة ملقة بإسبانيا، وهناك أمضى السنوات الأولى من حياته وهو ابن لمعلم الرسم جوزي رويز بلاسكو وأمه ماريا بيكاسو لوبز التي كانت ربة منزل وقد عاش في فرنسا من العام 1904 إلى وفاته. وفي إسبانيا أكمل بيكاسو دراسة المرحلة الابتدائية ولكنه لم يكن تلميذا نجيبا بحسب ما يقول أساتذته وبحسب ما يعترف به هو شخصيا فقد كان ضعيفا في جميع المواد تقريبا ما عدا مادة الرسم. وكثيرا ما كان الأساتذة يفاجئونه وهو يرسم حمامة أو شجرة أثناء القائهم للدرس وبالتالي فلم يكن يستمع لهم. ثم كبر بيكاسو في مدينة برشلونة. انتقل بيكاسو مع والده وعائلته إلى هناك بعد أن عيّنوه أستاذا في مدرسة الفنون الجميلة. ودخل بابلو الصغير إلى المدرسة نفسها عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره وأشرف والده عليه وزوده بتوجيهاته وبعد سنتين من ذلك التاريخ دخل بيكاسو إلى الأكاديمية الملكية في مدريد. كان بيكاسو طفلا معجزة يرسم صورا واقعية وهو لم يزل ابن الرابعة عشرة حيث سمي أول أسلوب شخصي له "الفترة الزرقاء" وهو يركز على موضوعات الوحشة واليأس ويرسم في الغالب ظلالا زرقاء. وبعد تلك الفترة من الدراسات الكلاسيكية اكتشف بيكاسو الحياة البوهيمية عندما راح يتردد على مقهى أدبي وفني واقع في قلب مدينة برشلونة القديمة. وهناك راح يزور المواخير أيضاً وهذا ما ألهمه في ما بعد كي يرسم لوحته الشهيرة "آنسات آفينيون". وهي من أشهر لوحاته وهي لوحة شكلت علامة بارزة في الفن إذ وضعت حدا فاصلا حاسما للنظريات التقليدية للجمال والانسجام... حيث تضمنت اللوحة 5 أشباح نسائية بشعة لها أقنعة أكثر مما هي وجوه تتصنع في وقفتها في لباس متشنج مشرشر مشوهة ثم أقام صداقات عديدة آنذاك وبخاصة مع فنان يدعى - كازا جيماس - ولكن انتحاره العام 1901 أثر على بيكاسو كثيرا وسبّب له جرحا داخليا لم يندمل إلا بعد فترة طويلة. وبدءا من العام 1904 راح بيكاسو يستقر نهائيا في فرنسا، واستأجر منزلا في حيّ المونمارتر القديم والعريق ولكنه كان بائسا آنذاك وفقيرا جدا ثم تعرف على امرأة فرنسية العام 1905 وراحت تساعده وتقدمه إلى الأوساط الأدبية والفنية الباريسية وتعرف عندئذ على الشعراء والكتّاب وبخاصة غيوم أبولينير أكبر شاعر في عصره ثم تعرف بعدئذ على كبار رسامي فرنسا، وبخاصة سيزان وجورج براك وأسس مع هذا الأخير مدرسة فنية جديدة تدعى بالمدرسة التكعيبية ومعلوم أن براك كان صديقا لرينيه شارل وأندريه بريتون وبقية السورياليين. وفي العام 1917... ابتسم له الحظ عندما طلب منه أحدهم أن يرسم الديكور للفرقة المسرحية الشهيرة البالي الروسية فسافر إلى إيطاليا لهذا الغرض. وهناك تعرف على إحدى الراقصات واسمها أولغا فتزوجها وأنجبت له ولدا العام 1921 يدعى بول وسوف ليكون ولده الأول ولكن ليس الأخير فبيكاسو كان مزواجاً مطلاقاً. عاد بيكاسو إلى أساليب أكثر كلاسيكية في الفن والرسم، ولكن هذه الفترة لم تدم طويلا فقد اندلعت الحركة السوريالية برئاسة أندريه بريتون والتي أثرت على جميع الكتاب والفنانين ومن بينهم بيكاسو. وهكذا عاد إلى التجريب من جديد وبقوة أكثر وراح ينتهك جميع القوانين الكلاسيكية لفن الرسم من أجل أن يبدع شيئا جديدا. وفي 27 أفريل من العام 1937 وقع حادث خطير أدى إلى قلب حياة بيكاسو وتغيير مجرى مساره الفني ألا وهو قصف مدينة غرنيكا الإسبانية من قبل الطيران الألماني حتى أصبحت خرابا بلقعا وهذا ما دفعه إلى رسم لوحة ضخمة تخلد الحدث. وكانت من أروع اللوحات الفنية في التاريخ المعاصر. وقد كرست شهرته العالمية إلى حد كبير. ثم انتقل بيكاسو في نهاية الأربعينات من باريس إلى الجنوب الفرنسي أي إلى الشاطئ اللازوردي - أجمل منطقة في العالم - وهناك أمضى الفترة الأخيرة من حياته والتي امتدت حتى العام 1973 تاريخ موته وبالتالي فقد عاش عمرا مديدا أي اثنين وتسعين عاما. وتقدر ثروة بيكاسو عند موته والذي كان يرى البعض أنه كان أغنى فنان في عصره بملياري فرنك فرنسي أي نصف مليار يورو الآن أو حتى مليار دولار بحسب رأي البعض. وهذه ثروة ضخمة لم يتوصل إليها أي كاتب أو فنان مهما علا شأنه. تحول بيكاسو إلى أسطورة حتى في حياته وأصبح رمزا على عبقرية الفن في القرن العشرين كله وكان رؤساء الدول يتمنون لقاءه وعلى المستوى الشخصي كان يتمتع بشخصية قوية جدا وكانت عيناه تلمعان وتطلقان الشرر كالمصابيح وعلى الرغم من أنه كان قصيرا "مترا و60 سنتيمترا" إلا أنه كان يفرض هيبته على الجميع. وأصبحت لوحاته رمزاً على الفن الحديث كله فهي تعكس لبّ الحداثة وجوهرها حيث كان يرفض التقليد والتراث بمعنى آخر فانه كان يرفض تقليد أشكال الطبيعة ومناظرها في لوحاته كما كان يفعل الفنانون الانطباعيون. فقد كان يرسم الواقع بطريقة رمزية غريبة لا علاقة لها بالواقع نفسه.