لم يكتف "غور" بتقديم توجيهات سياسية لمانديلا بل استقال من مكتب المحاماة حتى يمكنه ليصبح محاميا لأن المكتب قد يماطل في تسجيله في قائمة المحامين بحجة لديهم من هو مكلف بجلب الزبائن ولديه معرفة في المعاملات القضائية، ولكن إلى جانب شخصية "غور داربي" كان تأثير "ولتر سيسولو" واضح المعالم لأنه هو الآخر كان "مؤمنا بأن المؤتمر الوطني الإفريقي هو أداة التغيير السياسي في جنوب إفريقيا". خاصة بعد عام 1941 عندما أكد ميثاق الحلف الأطلسي على الإيمان بكرامة الإنسان ودعا إلى مجموعة من المبادىء الديمقراطية. واستلهاما لذلك الميثاق وضع المؤتمر الوطني الإفريقي ميثاقا خاصا به تحت عنوان "المطالب الإفريقية" نادي به بمنح جميع الإفريقيين الجنسية الكاملة وحق بيع وشراء الأراضي وإلغاء جميع قوانين التفرقة العنصرية. إن هذه الصورة التاريخية تؤكد بأن الوجود الإفريقي كتلة واحدة سواء في جنوبه أو شماله، لأن في الجزائر وبالتحديد بعد إنزال الحلفاء قواتهم على الساحل الجزائري ابتداء من الثامن من نوفمبر 1942، فإن هذا الحدث "حتم على القادة الساحة السياسية الوطنية الجزائرية الإسراع في التلاقي من أجل التشاور حول ما ينبغي القيام به لحماية الشعب الجزائري وتمكينه من تقرير مصيره بنفسه واسترجاع سيادته"، فانتهى ذلك اللقاء بصياغة "ما سوف يصطلح على تعريفه ببيان الشعب الجزائري" الذي دعا إلى إدانة الاستعمار وإلغائه، ولحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وتزويد الجزائر بدستور خاص بها يضمن الحرية والمساواة بين جميع سكانها، وإلغاء الملكية الإقطاعية، وغيرها من المطالب المستوحاة "من البرنامج السياسي الذي وضعه نجم شمال إفريقيا منذ 1933". لقد صار منزل المناضل "ولتر سيسولو" المدرسة الأولى للتكوين السياسي لمانديلا، ليس لأنه قبلة أعضاء المؤتمر الوطني الإفريقي، بل لأنه إلتقى فيه مجموعة من المحامين بشهادات عليا، ومن بينهم "بانتون ليمبيدي" الذي كان "يمقت عقدة النقص التي كان يشعر بها السود، ويندد بما سمّاه عبادة الغرب والأفكار الغربية وتأليهها"، ويقول: "إن لون بشرتي جميل كجمال التربية السوداء في إفريقيا الأم". وهذه الدعوة الإفريقية كتب عنها في إحدى الصحف مقالا جاء فيه: ".. لقد اختبرت القومية في كفاح الشعوب وبين لهيب نيران المعارك. وثبت أنها العلاج الوحيد ضد التسلط الأجنبي والاستعمار الحديث". وهذه الرؤية النضالية ستنجح في ميلاد "رابطة الشباب كوسلية لإشعال جذوة المؤتمر الوطني الإفريقي" وانتخب مانديلا عضوا في لجنتها التنفيذية، وهكذا أعلنت الرابطة بيانها السياسي، ومما جاء فيه: "إننا نؤمن بأن التحرر الوطني للإفريقيين لا يتحقق إلا على أيدي الإفريقيين أنفسهم، وعلى رابطة الشباب التابعة للمؤتمر الوطني الإفريقي أن تكون العقل المدبر ومركز الطاقة لروح القومية الإفريقية"، وأشار البيان إلى القوانين التي تكبل الإفريقيين مثل قانون الأراضي الذي سلب منهم الأرض التي ولدوا عليها، وقانون الحواجز العرقية الذي حال دون إسهام الإفريقيين في مزاولة المهن والمهارات المختلفة، وقانون إدارة شؤون السكان الأصليين الذي وضع جميع مناطق جنوب إفريقيا تحت سيادة العرش البريطاني بدلا من زعماء القبائل وحكامها. وفي سياق هذا البيت السياسي تعرف مانديلا على زوجته الأولى "إفلين مايس"، التي أنجب منها إبنه "ماديبا تيمبيكلي" وبنته "ماكازيوي" التي فارقت الحياة بعد تسعة أشهر، ولأن المناضل رجل لا بيت له، ولد ثاني أبنائه "ماكغاتو لوانيكا" في خضم تنظيم ليوم الاحتجاج الذي خلدته أدبيات حركات التحرر بيوم الحرية (26 جوان 1950)، ولأن الأسماء ذات صلة بزمن التأهيل فقد فسر لنا مانديلا بأن اختيار اسم ابنه كان سياسيا لأنه "سيكافو مابوغو ماكغاتو هو ثاني رئيس للحزب الوطني الإفريقي تولى الرئاسة مابين 1917 و1924، واسم لوانيكا هو من أبرز زعماء القبائل في زامبيا. وماكغاتو هو أحد أبناء زعماء البيدي وقائد فرق المتطوعين الذين تصدوا للحواجز العرقية التي منعت على الإفريقيين السير على الرصيف في بريتوريا، وكان اسمه بالنسبة لي شعارا للصلابة والشجاعة". إن هذه الروح الثورية لدى مانديلا ظلت تتحرك في إطار القومية الإفريقية لأنه لم يكن يثق في اليسار الأبيض، ويعترف قائلا: "ورغم صداقتي للعديد من الشيوعيين البيض كنت مرتابا من نفوذهم داخل المؤتمر الوطني الإفريقي"، وهذا التحفظ يصدق أيضا بالنسبة للمقاومة السلمية التي شنها الهنود عام 1936، التي بدا معجبا بها وفي الوقت ذاته كان يعتقد بأنها تسعى للسيطرة على المؤتمر الوطني الإفريقي. وفي 1947 تولى مانديلا أول مسؤولية سياسية رسمية عندما أنتخب عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، فصار جزءا منه "قلبا وروحا، مرتبطا به ارتباطا مصيريا: آماله ويأسه، نجاحه وإخفاقاته". ولعل هذا الالتزام السياسي ساهم في انفتاحه بعد وفاة "ليمبيدي" زعيم رابطة الشباب وتولي "بتر أمدا" شؤونها لأنه كان أكثر اعتدالا في قوميته من سلفه. وفي هذه الرؤية انتقل الوعي السياسي في جنوب افريقيا من التفكير القبلي إلى النزعة القومية المغلقة ثم تطور إلى النزعة الإفريقية المنفتحة التي أثمرت على "ميثاق الدكاتره" الذي وحد جهود الدكتور زوما رئيس المؤتمر الوطني الإفريقي، والدكتور دادو رئيس المؤتمر الهندي في ترانسفال، والدكتور نايكر المؤتمر الهندي في نتال، ثم التحقت المنظمة الشعبية الإفريقية التي تمثل الملونين بهذا الاتفاق لمواجهة العدو المشترك أي سياسة الرجل الأبيض سواء أكانت الحزب المتحد أو الحزب الوطني، ولكن هذا الأخير فاز في انتخابات 1948 رغم تعاطفه الصريح مع ألمانيا النازية. تبنى "دانيال مالان" الصحفي ورجل الكنيسة الإصلاحية الهولندية وحزبه الوطني سياسة التمييز العنصري أي الأبارتيد التي تقوم على "أفضلية البيض المطلقة على الإفريقيين والملونين والهنود.. لقيت تلك السياسة الدعم من قبل الكنيسة الإصلاحية الهولندية التي زودت التفرقة العنصرية بأسسها الدينية عندما ادعت بأن الأفريكانيين هم شعب الله المختار أما السود ماهم إلا جنس العبيد"، وهنا نتساءل: ما قيمة قرارات الأممالمتحدة التي أصدرت لإدانة العنصرية والتمييز العنصري ثم ألغيت لاحقا مثل قرار 3379 الصادر في 10 نوفمبر 1975 والذي أعدم في منتصف ديسمبر 1991؟ لقد كان انتصار الحزب الوطني بالنسبة للأفريكانيين البيض الذين احتلوا إفريقيا "يضاهي عودة بني اسرئيل إلى أرض الميعاد، إذ جاء تحقيقا لوعد الله وتأييدا لاعتقادهم بأن جنوب إفريقيا هي وطن الرجل الأبيض للأبد"، وبالتالي قام ذلك الحزب بسلب الحقوق الدستورية المحدودة للإفريقيين والملونين والهنود من خلال قانون منع الزواج المختلط وألحقه بقانون الفساد الأخلاقي الذي ينص على عدم شرعية العلاقات الزوجية بين البيض وغير البيض، ثم جاء قانون السكان والتسجيل ليصنف المواطنين على أساس عرقي، وكذلك قانون مناطق المجموعات العرقية الذي "حدد لكل مجموعة عرقية مناطق تعيش فيها". ولمواجهة هذه السياسة العنصرية اشتغل مانديلا ورفاقه "ولتر سيسولو" و«أوليفر تامبو" من أجل تحويل المؤتمر الوطني الإفريقي إلى حركة شعبية تمارس سياسة المقاطعة والإضرابات والاعتصام في البيوت والمقاومة السلمية ومسيرات الاحتجاج وغيرها من وسائل العصيان المدني على منوال حركة اللاعنف التي قادها "غاندي" في الهند عام 1946، وفي ضوء هذه الرؤية تّم تجديد قيادة الحزب وعاد العمل المشترك مع المؤتمر الهندي لجنوب إفريقيا والجبهة الشعبية الإفريقية بتنظيم "يوم وطني للاحتجاج في 26 جوان 1950 للتنديد بقتل السلطات الحكومية ثمانية عشر إفريقيا في أول ماي وصدور قانون محاربة الشيوعية". وهكذا بدأت اعتراضات مانديلا على الحضور اليساري في الحزب تنهار لأن تضحيات المناضلين وإخلاصهم للقضية الإفريقية كانت أقوى من الموقف المتحيز أو التشكيك الذي لا يستند على الحجة أو البرهان، وهذا مادفعه لقراءة الأعمال الكاملة لكارل ماركس وانجلز ولينين وستالين وماو تسي تونغ، فأعجب بفكرة المجتمع اللاطبقي وقبل بمقولة ماركس التي تقول: "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته". ووجد في المادية الجدلية الأسلوب الذي فسر له بأن الصراع يتجاوز ثنائية الأسود والأبيض خاصة في الجوانب الاقتصادية لأن "تحديد قيمة السلعة بالجهد المبذول في انتاجها تتلاءم تماما مع ما يجري في جنوب إفريقيا". لقد استطاع مانديلا أن يوفق بين قوميته الإفريقية والأفكار الماركسية لأنه وجد "أن ما يجمع القوميين الإفريقيين والشيوعيين الإفريقيين يفوق بكثير ما يفرق بينهم" لأنه كان قبل كل شيء قوميا إفريقيا يناضل من أجل تحرير شعبه من حكم الأقلية وحقه من أجل تقرير مصيره، ومؤمنا بأن "كل فلسفة تضع تلك المشاكل والقضايا في إطار عالمي وتاريخي يتصل بالعالم الأكبر وبمسيرة التاريخ البشري هي فلسفة قيّمة". وهذا السياق الفكري وحد كفاح الجزائر بنضال جنوب إفريقيا لأنه في الذكرى المائوية لاحتلال الجزائر (1830 1930) وزع نجم شمال إفريقيا منشورا باللغتين العربية والفرنسية يندد بتحضيرا ت الاحتفال تحت عنوان "النضال ضد الإمبرالية الفرنسية" وكذلك الجمعيات والأحزاب التي تأسست بعد 1930 رفضت تلك الاحتفالات ومن بينها لجنة المغرب العربي التي نظم الجزائرون بإشرافها مؤتمرا ببرلين وأصدرت بيانا باسم "قرن من استعباد المسلمين الجزائريين تحت القهر الفرنسي"، بينما في الذكرى المائوية الثالثة لنزول بان فان رابييك في 7 أفريل 1652 باعتباره تاريخ ميلاد وطن البيض، شن الحزب الوطني الإفريقي مظاهرات ومسيرات ضد القوانين العنصرية وتنديدا باحتفالات ذلك اليوم الذي يؤرخ لثلاثة قرون من العبودية. جامعة وهران