تشهد العلاقات الأمريكية - الإيرانية منذ تولي الرئيس الإيراني حسن روحاني مقاليد الحكم في أوت الماضي، بداية انفراج بعد نحو أربعة وثلاثين عاما من العداء. ويحمل هذا الانفراج بين ثناياه - في حال نجاحه - إمكانية حدوث تغيّرٍ نوعي في العلاقات بين البلدين. بيد أن نجاح فرص هذا التقارب سوف يعتمد إلى حد كبير على قدرة الطرفين على التوصل إلى حلّ للملفات الأساسية العالقة بينهما، وفي مقدمها البرنامج النووي الإيراني ودور إيران الإقليمي وموقفها من قضايا الصراع الأساسية في منطقة الشرق الأوسط والخليج. لكن النجاح سوف يعتمد، في الوقت نفسه، على مواقف الأطراف الإقليمية - ومنها إسرائيل - التي تتأثر بشكل مباشر من أي تطور في العلاقات الأمريكية - الإيرانية لجهة التعاون أو التنافر. تعالج هذه الورقة بواعث القلق الإسرائيلي من احتمال حدوث انفراج في العلاقات الأمريكية - الإيرانية، وتأثيراتها في مضمون الاتفاق الذي تسعى كل من الولاياتالمتحدةوإيران للتوصل إليه بشأن الملف النووي الإيراني، وما إذا كان سيشمل ذلك أيضا التفاهم على حدود النفوذ الإقليمي الإيراني وماهيته. منذ أن جرى انتخاب الرئيس حسن روحاني، بادر إلى إشاعة مناخ جديد في ما يتعلق بعلاقات بلاده بالولاياتالمتحدة بشكل خاص والدول الغربية بشكل عام. وفي هذا السياق، قام روحاني في إطار التحضير لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وأثناء حضورها بحملة علاقات عامة ممنهجة ومدروسة للتواصل مع الجمهور الغربي، شملت كتابة مقالات في الصحف الأمريكية (منها مقالة له شخصيا وأخرى للرئيس الأسبق محمد خاتمي)، كما أجرى عددا من المقابلات مع قنوات التلفزة الأمريكية الكبرى، وعقد اجتماعات من وراء الكواليس مع محرري الصحف والمحللين السياسيين المختصين بشؤون إيران والشرق الأوسط. خلال هذه الحملة، قدّم روحاني خطابا سياسيا إيرانيا جديدا مرنا، ناقض فيه بوضوح خطاب سلفه أحمدي نجاد، وحاول من خلاله كسب ود وسائل الإعلام والرأي العام الأمريكي والغربي. فقد اختفت تماما من الخطاب الإيراني الجديد المصطلحات المعادية للغرب ولأمريكا مثل "الشيطان الأعظم" و«الاستكبار العالمي" و«محو إسرائيل من الخارطة" وما شابه ذلك، وهي مصطلحات هيمنت لعقود على الخطاب السياسي الإيراني، وأثارت امتعاض الغرب وحنقه. وقد ذهب روحاني في محاولاته إسماع الغرب ما يرغب فيه إلى حدِّ تهنئة اليهود برأس السنة العبرية الجديدة، والاعتراف بحدوث المحرقة ضدهم وإدانتها من دون تحفظ، ولم يأت بأي شكل على ذكر المقاومة التي كانت لازمة في الخطاب السياسي الإيراني، بل إنه اعتبر "أن العنف لا يمكنه أن يحل مشاكل البشرية". ونفى بشكل قاطع أن تكون إيران تسعى بأي شكل لإنتاج سلاح نووي، وأكد أن برنامج إيران النووي سلمي وأنه معد لأغراض مدنية. كما تمسك بحق إيران في الاستمرار في تطوير مشروعها على هذا الأساس بما في ذلك حقها في الاستمرار في تخصيب اليورانيوم لخدمة أغراض مدنية. شكل الخطاب الإيراني الجديد وتجاوب الولاياتالمتحدة والدول الغربية معه مبعث قلق شديد في إسرائيل. وسرعان ما تشكل إجماع على مستوى النخبة شمل صناع القرار ووسائل الإعلام والمختصين بالشأن الإيراني، أنكر حدوث تغيير حقيقي في السياسة الإيرانية تجاه الولاياتالمتحدة والغرب أو تجاه مشروعها النووي. وجاءت المقاربة على شكل أن "الكلام المعسول" و«حملة الابتسامات" ومجمل الخطاب السياسي الإيراني الجديد، شكلا ومضمونا، لا يعدو كونه "خدعة"، وأن الرئيس حسن روحاني هو "ذئب بلباس حَمَل"، وهو كلام ذكره بنيامين نتانياهو على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبناء عليه، فقد اعتبرت النبرة الإيرانية الجديدة مجرد "تغيير تكتيكي" يسعى لتحقيق أهداف استراتيجية أهمها رفع العقوبات الاقتصادية وفك الحصار، وفي الوقت نفسه الحفاظ على تقدّم المشروع النووي. وقد زاد من قلق إسرائيل تسارع عملية الانفراج في العلاقات الإيرانية - الأمريكية، التي توجها اجتماع وزير خارجية إيران بوزير الخارجية الأمريكي لأول مرة منذ 34 عاما، والمحادثة الهاتفية التي جرت بين روحاني والرئيس الأمريكي باراك أوباما. تخشى إسرائيل أن يؤدي الانفراج في العلاقات بين إيرانوالولاياتالمتحدة إلى إحداث تغيير استراتيجي في المنطقة من شأنه إلحاق الضرر بمكانتها ودورها، وفي الوقت نفسه يعزز مكانة إيران بوصفها دولة إقليمية ذات نفوذ واسع في الشرق الأوسط. وهناك قلق إسرائيلي حقيقي من أن يؤدي الانفراج في العلاقات الإيرانية - الأمريكية إلى: - أولا: إنهاء عزلة إيران الدولية وتحسين علاقاتها مع الولاياتالمتحدة والدول الغربية. - ثانيا: تقليص العقوبات الاقتصادية الدولية ضد إيران تدريجيا، في إطار خطوات عملية لإعادة بناء الثقة بين الغرب وإيران، قبل التوصل إلى اتفاق شامل بشأن الملف النووي الإيراني، ما يعزز قدرة إيران في عملية المفاوضات بشأن برنامجها النووي. - ثالثا: هناك خشية إسرائيلية من أن تتوصل الولاياتالمتحدة إلى اتفاق شامل بشأن الملف النووي الإيراني وملفات الصراع الأخرى في المنطقة، من دون إجراء التنسيق الكامل مع إسرائيل، ومن دون أن يكون للأخيرة القدرة على التأثير في مضمون هذا الاتفاق ومكوناته. - رابعا: على الرغم من أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل متفقتان اتفاقا كاملا على منع إيران من إنتاج السلاح النووي، فإن هناك خلافات حقيقية بينهما. ففي حين تقر الولاياتالمتحدة مثلا بحق إيران في تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية سلمية كما جاء في خطاب الرئيس أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن إسرائيل تعارض ذلك بشدة. وهناك اعتقاد سائد في إسرائيل أنه جرى تنسيق مسبق بين الإدارة الأمريكية والرئيس روحاني بشأن حق إيران في تخصيب اليورانيوم المعدّ لأغراض مدنية، وكذلك حقها في تطوير مشروعها النووي السلمي شرط إخضاعه للرقابة والشفافية. وغني عن القول أيضا بأنه لا يوجد اتفاق بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل بشأن نسبة تخصيب اليورانيوم أو كميته المسموح لإيران إنتاجه والاحتفاظ به على أراضيها في أي اتفاق مستقبلي. علاوة على ذلك، لا يوجد اتفاق بينهما أيضا بشأن الخط الأحمر أو المرحلة التي يتعين عند بلوغها استعمال القوة العسكرية لإيقاف المشروع النووي الإيراني. لقد حدَّد نتانياهو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة السنة الماضية خطا أحمر ينبغي في حال تجاوزه استخدام القوة العسكرية ضد إيران، وهو إذا قامت الأخيرة بتخصيب أكثر من 250 كيلوغرام من اليورانيوم بنسبة 20 في المئة. ووفقا للرواية الإسرائيلية - التي ينبغي التعامل مع معطياتها بحذر شديد - فقد حرصت إيران في السنة الماضية على تحويل قسم من اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 في المئة إلى وقود نووي (الذي يمكن إعادته إلى حالته السابقة، أي إلى يورانيوم مخصب بنسبة 20 في المئة، خلال فترة قصيرة). وقد تمكنت إيران في الشهور الأخيرة من تطوير قدراتها في تخصيب اليورانيوم نتيجة إضافة ألف جهاز طرد مركزي متطور، إذ بإمكان كل جهاز منها تخصيب أربعة إلى خمسة أضعاف النسبة التي كان يخصبها جهاز الطرد المركزي القديم. وتشير المصادر الإسرائيلية إلى أنه بفضل التكنولوجيا الجديدة بات بإمكان إيران - إن شاءت - القفز عن مرحلة تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المئة، والقيام مباشرة بالتخصيب من 3.5 في المئة إلى 90 في المئة. وهذا يعني بوضوح أن الخط الأحمر الذي حدده نتانياهو في السنة الماضية بخصوص كمية اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 في المئة لم يعد قائما. وإلى جانب تلاشي خط نتانياهو الأحمر، تخشى إسرائيل أن يؤدي تمسّك أوباما بالحل الدبلوماسي، وكذلك تعبُ الغرب بشكل عام والشعب الأمريكي بشكل خاص من الحروب، وتعزز التوجهات الانعزالية في الولاياتالمتحدة، وصعوبة العودة إلى منطق استعمال القوة العسكرية ضد إيران بعد تزايد الآمال بإيجاد حل دبلوماسي، إلى توصل الولاياتالمتحدة إلى اتفاق "سيء" - بالنسبة إلى إسرائيل - مع إيران بشأن ملفها النووي، يحفظ لإيران القدرة على أن تتحول خلال فترة قصيرة إلى دولة قادرة على إنتاج السلاح النووي. وهذا ما ترفضه إسرائيل بشدة، فهي تفضل استمرار الوضع القائم حاليا الذي يشمل استمرار فرض العقوبات على إيران وحصارها ومواجهتها. وفي سياق معارضة إسرائيل للتوجه الإيراني الجديد، وفي محاولة منها إلى استباق المفاوضات بين إيرانوالولاياتالمتحدة والتأثير فيها، سارع بنيامين نتانياهو إلى التأكيد في تصريحاته المختلفة وفي خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن أي اتفاق بين الإدارة الأمريكيةوإيران يتعين أن يضع حدا للمشروع النووي الإيراني برمته، وأن يشمل ذلك: - أولا: وقف جميع أنواع تخصيب اليورانيوم، بأي درجة كانت، وقفا كاملا. - ثانيا: إغلاق منشأة فوردو التي يجري فيها تخصيب اليورانيوم في أعماق الأرض، وتفكيك أجهزة الطرد المركزي المتطورة وإزالتها، التي كانت قد أدخلت مؤخرا إلى منشأة نتانز. - ثالثا: إخراج كل أنواع اليورانيوم المخصب من إيران إلى دولة ثالثة. - رابعا: إغلاق منشأة المياه الثقيلة في آراك، التي تطور إيران فيها مسارا جديدا ومختلفا لإنتاج سلاح نووي يعتمد على البلوتونيوم وليس على تخصيب اليورانيوم. وبخلاف الاتجاه العام السائد في الولاياتالمتحدة، حيث أظهرت استطلاعات الرأي العام أن 75 في المئة من الأمريكيين يؤيدون حلا دبلوماسيا للملف النووي الإيراني، هدَّد نتانياهو في الخطاب نفسه باستعمال القوة العسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية. وأعلن بشكل صريح أن "إسرائيل لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي" وأنها ستعمل وحدها، إن اقتضت الضرورة، لمنع إيران من إنتاج السلاح النووي. لم يوضح نتانياهو في خطابه هذه المرة الخط الأحمر الذي إذا ما تعداه المشروع النووي الإيراني فسوف يتعين على إسرائيل القيام بضربه، فهل هو اقتراب إيران بدرجة كبيرة من القدرة على إنتاج السلاح النووي؟ أم توصلها فعلا إلى القدرة على إنتاجه؟ أم هو اتخاذ إيران قرار إنتاج السلاح النووي بعد امتلاكها قدرة إنتاجه؟ ويبدو أن تهديد نتانياهو باستعمال القوة العسكرية الإسرائيلية ضد المشروع النووي الإيراني يعبِّر عن المأزق الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه في مواجهة المقاربة الإيرانية الجديدة تحت قيادة روحاني. وعلى الرغم من أن هذه التهديدات تفقتر إلى الجدية لا سيما مع انطلاق المفاوضات التي ستجريها الولاياتالمتحدة والدول العظمى مع إيران، التي من المتوقع أن تستمر شهورا طويلة، فإن نتانياهو يهدف من ورائها إلى إبقاء الملف النووي الإيراني على قمة الأجندة الدولية وإلى الضغط على الإدارة الأمريكية والدول الغربية للإبقاء على العقوبات الاقتصادية ضد إيران. وخلافا لما ادّعاه نتانياهو، في معرض تهديده بضرب المشروع النووي الإيراني، بأنه يأتي في إطار الدفاع عن النفس، فهو في حقيقة الأمر يدافع عن استمرار إسرائيل في احتكار السلاح النووي في الشرق الأوسط لأطول فترة ممكنة. فحتى إذا تمكنت إيران من إنتاج السلاح النووي، وهو أمر مستبعد في الزمن المنظور، فإنها لن تشكل خطرا وجوديا بالنسبة إلى إسرائيل، فإسرائيل تمتلك ترسانة ضخمة تقدر بالمئات من مختلف القنابل النووية والهيدروجينية والنيوترونية، وفقا للعديد من المصادر الأجنبية. وهي تمتلك أيضا جميع مقومات "الردع"، أي امتصاص الضربة الأولى في حال وقوعها، وتوجيه الضربة النووية الثانية بفضل الغواصات الحديثة التي حصلت عليها من ألمانيا في العقد الأخير. وبإمكان الضربة الثانية تدمير معظم، إن لم يكن كل، المدن الإيرانية تدميرا كاملا. لذلك، من الواضح أن نتانياهو، في سياق تصديه للمشروع النووي الإيراني، لا يدافع عن وجود إسرائيل كما ادعى في خطابه، وإنما يدافع عن استمرار احتكار إسرائيل للسلاح النووي، والذي بات جزءا من عقيدتها الأمنية ومن استراتيجيتها الرامية إلى بسط نفوذها على المنطقة واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية بغرض تهويدها وضم معظمها إليها. وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات