ليس من المعتاد سرد سيرة ذاتية يرفض فيها صاحبها مصادرة الحقائق الشخصية التي تعيد إدماج الاشخاص صناع التاريخ الكبير في بعدهم الانساني، مجردا من السرد التاريخي المنمط والموضوعي. ربما هو ما يجعل اليوم الهاشمي العربي أسعد جزائري يروي حياته عبر طيات تاريخ متميز "لثورة ليست كغيرها من الثورات التي شهدها العالم"، كأي جزائري بسيط لا يكتفي ببساطة وضعه المادي والثقافي فحسب ليضفي عليها حقيقة الإنسان بكل نزعاته. يبدو الرجل، من أول وهلة وهو يتنقل بين أروقة الصالون الدولي للكتاب بخطى من يحمل عبء الزمن، كشخص قادم من زمن آخر، فقد أصبح من النادر ملاقاة هؤلاء الذين ينتمون إلى من نسميهم نحن "الأجيال الشابة" كما يروق له القول للأسرة الثورية، بكل ما تشحنه من رمزية وصورة منمطة للتمجيد لإنجازات الثورة الجزائرية. هذه الأسرة التي عرفت في الفترة الأخيرة بروز ظاهرة المذكرات والكتابات الكثيفة حول الأحداث التاريخية، مخلفة جدالات حادة ومناقشة في الحقائق التاريخية تسمح بفهم التاريخ الحديث لجزائر الثورة وما بعد الاستقلال، ينفرد عنها ضيف حلقات اخوان الصفا، التي افتتحها في ذكرى اندلاع ثورة نوفمبر بجناح دار "سقراط نيوز"، بكتابة شخصية إن لم نقل حميمية تتوغل في أدق التفاصيل لدرجة لا نبالغ فيها إن قلنا إن صاحبها يتمتع بذاكرة الفيل. وحين نكتشف أمام هذا المشهد أن الرجل كان وراء فكرة إنشاء قصر المعارض، الذي تدور فيه حاليا فعاليات الصالون الدولي للكتاب، تكتمل أمامنا صورة سينيمائية لرجل قدم ليجالس الحضور ككتاب مفتوح ويقول لهم إنه "سعيد"، سعادة غير ديماغوجية كالتي نسمعها يوميا عير الخطابات الرسمية والمتكلفة، بل سعادة "إنسان حقق نفسه من لا شيء في فترة لم تكن رحيمة بالنسبة للجزائريين الفقراء، المحرومين من التعليم والصحة والعيش الكريم". يحاكي الهاشمي العربي صاحب كتاب "يوميات جزائري سعيد"، الصادر مؤخرا عن دار نسيب، شهادة مفتوحة عبر نسيج من الأحداث الشخصية التي تتظافر حول التاريخ الرئيسي للجزائر انطلاقا من الحقبة الاستعمارية، حيث يتنقل المؤلف بين طيات ذاكرته من مرحلة إلى أخرى من خلال نظرة شخصية مشحنة بالتفاصيل ووصف واف، سواء بالنسبة لتركيبة الأحداث التي لها علاقة مباشرة بالتاريخ الكبير من خلال العلاقات التي تربط المؤلف بالوجوه، التي صنعت الثورة والحياة العامة أومن خلال سرد يوميات الحياة العادية، وما ميزها من فترة لأخرى بسرد التاريخ الشخصي الذي ينطلق من بحث جينيالوجي منقب، أوما يسمى بشجرة العائلة إلى غاية اليوم.. حيث صنعت هذه الأحداث شخصية المؤلف ليحقق نفسه من خلال النظرة التي كونها على الأشياء، نظرة محايدة ذي نزعة فردية في بعض الأحيان إن لم يجد نفسه كفاعل في خضم صناعة التاريخ، مثل حال كل الجزائريين في تلك الفترة. الهاشمي العربي كان ينتمي إلى عائلة قدمت الى العاصمة في سنوات الثلاثينيات بحثا عن حياة أرقى بعد أن فرت من بؤس الحياة الريفية بمنطقة معاتقة (القبائل)، وبعد أخذ ورد من بجاية إلى تونس ثم إلى بجاية ثانية بحثا عن ميزات الحياة الحضرية، حيث ولد في هذه الظروف الهاشمي العربي، الطفل الثاني لأسرته المكونة آنذاك من جده وجدته، والديه، شقيقه الأكبر مصطفى وأخته الصغرى مليكة. وستعيش العائلة التي استقرت بشارع لارودوت (المرادية حاليا)، الفقر المدقع "ككل الجزائريين آنذاك كنا نقتات من بيع الحشيشة المقطفة والحميصة"، حيث يتطرق الكاتب لطفولته الصعبة من خلال صراعات العائلة الداخلية، تنصل الوالد من مسؤولياته، حرمانه من التعليم بعد فترة قصيرة في مدرسة فرنسية عامة، ومرض شقيقه الأكبر الذي حالت الوضعية المادية دون علاجه وأدت الى وفاته في ظروف قاسية بالنسبة لكل العائلة. يلتحق هذا الفصل بمشهد عام لحرب عالمية ثانية مشرفة على الأبواب، حيث كان هم أي جزائري البقاء على قيد الحياة وكسب لقمة العيش من خلال المتاجرة والمقايضة ستعرف أوجها مع مجيء الحلفاء الأمريكين في 1942. يروي العربي هذا في ظل ظرف عام اتسمت ملامحه ببداية إعادة تركيب الحركة الوطنية عبر حي لارودوت، أين عرف الاشخاص الذين سيخططون لاحقا لمشروع نوفمبر 1954، من خلال تشكل حركة الحزب الشيوعي الجزائري وحزب أنصار الحريات الديمقراطية. ولعل أبرز من ذكرهم هم عائلة ديدوش مراد وشقيقه الأكبر عبد الرحمان والدهما، ذبيح شريف صديق طفولته وأحد الفاعلين في معركة الجزائر، إلى جانب يوسف سعدي، وكذا الشيخ عبر الرحمان الجيلالي الذي سيتتلمذ على يده في جمعية "التربية و التعليم" التابعة للحركة، والذي سيعود له الفضل في تعلم اللغة العربية وحفظ القرآن والتنقل إلى جامعة الزيتونة بتونس، أين سيتعرف هناك لاحقا على وجوه تاريخية أخرى على غرار عبد الحميد مهري، محمد الميلي، مولود قاسم نايت بلقاسم، ومحمد شريف مساعدية.. فاعلون آخرون يرويهم الهاشمي عبر إنجازاتهم، اعتقاداتهم والصراعات التي ستواجههم (جمعية العلماء ضد الحزب الشيوعي الجزائري والوطنيين، مصالي الحاج ضد القيادة المركزية للحزب أنصار الحريات الديمقراطية)، حيث ستشكل هذه التركيبة نظاما يميزه الغموض، السرية والتحفظ، جعلت الوضع السائد آنذاك في حالة حيرة ازدادت بعد اندلاع الثورة مع ظهور جبهة التحرير الوطني وتضاعف الاغتيالات والتصفيات التي استهدفت كذلك المثقفين. هذا إلى جانب العمليات الثورية التي يتطرق المؤلف اإلى منهجياتها وطريقة إنجازها في محيط العاصمة بصفته مناضلا وطنيا. وهو سيدفعه إلى الهجرة.. أين سيروي تجربته في باريس كبائع ملابس متجول برفقة فرقة الفنان عبد الحميد عبابسة، مغامراته العاطفية وكذا انتقاله إلى ألمانيا، بالتحديد الى ميونيخ، أين درس السياسة. كل هذا قبل أن يعود إلى جزائر ما بعد الاستقلال، أين سيعطي بورتريه بلد حديث النشأة يبحث عن نفسه من خلال تجربته في سلك الاقتصاد وبالتحديد في التجارة. ومن المهم كذلك في هذا الكتاب الذي يعج بالمرجعيات الفكرية الاجتماعية والتاريخية، الحياة الثقافية التي يحكيها الكاتب من خلال أهم وجوهها عبر المسرح، الموسيقى، الأدب والسينما من خلال تجربته في الإذاعة والمسرح. يوميات جزائري سعيد هي كل هذا المسار لجزائري توفرت له كل الحظوظ لإنجاز حلم شخصي، وهو الترقي بنفسه في ظروف لم تكن سهلة.. "نعم هي رسالة للأجيال الشابة التي لا تقرأ"، يؤكد المؤلف في نهاية اللقاء، بكل قسوة ربما لكن باعتبار في ظل توفر الحدود يمكن تحقيق المستحيل مقارنة بفترة حيث الأفكار العظيمة فيها تُخلق من لا شيء.