مع المجيء بحمروش إلى رأس الحكومة على أنقاض مرباح، كان الشاذلي مرتاحا إن لم نقل إنه وضع كل ثقته بشكل كبير في رئيس حكومته الجديد الذي كان يعتبره بن جديد عجينته وصنيعته، فلقد قال لي الشاذلي بن جديد في 2001 عندما سألته عن الانتساب الحقيقي للإصلاحات، معلقا على أبوتها الحمروشية، قال لي معترضا: ".... لا... لا.. ليست الإصلاحات من بنات أفكار مولود حمروش.. فالإصلاحات أنا أبوها وصاحبها الشرعي، وراودتني منذ الفترات الأولى التي وصلت فيها إلى رأس الجمهورية.. لقد وجدت حالة البلاد على قدر كبير من الجمود والانحطاط، وكنت أرى أنه لا بد، من إحداث تغيير جزئي في بداية الأمر، ليتحول إلى تغيير عميق، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل كذلك على صعيد سياسي، فمن الصعب بل من المستحيل فصل الاقتصادي عن السياسي.. لا يمكن أن نكون لبيراليين ونسير شؤون الدولة بعقلية اشتراكية متحجرة.. لقد كان العالم يتغير بسرعة عندما كنت على رأس الدولة، وكان علينا التفكير في إجراء مثل هذه التغييرات الكبرى المطلوبة، وإلا كان سيأتي علينا الطوفان إلى عقر ديارنا ونحن نيام.. لذا راهنت على بعض الشباب الواعد والنشيط، ومنهم كان مولود حمروش وغيره من الوجوه الجديدة التي فتحت لها باب الارتقاء والعمل والبروز...". مولود حمروش لم يفند مثل هذا القول، لكن من يعرف الرجل، وأسلوبه في التفكير وقدرته على المناورة، وثقافته السياسية والقانونية ورؤيته الاستراتيجية لا يمكن النظر إليه على أساس أنه مجرد منفذ، بل كان ملهما لمحيطه ولمن آمنوا بخوض معركة التغيير إلا أن ما يؤخذ على مولود حمروش هو عدم إقباله على اتخاذ المبادرة عندما يكون بعيدا عن مركز القرار، أو عندما يكون ميزان القوة يبدو في الظاهر لغير صالحه.. وهذا السلوك نفسه نجده متجذرا ومتمكنا عند القيادات المنتمية لجيل الثورة، ومنهم هواري بومدين، وعبد العزيز بوتفليقة، وقد ينتج عن ترددهم في اللحظات الممكنة إلى إحداث حالة جمود تدفع بهم رويدا، رويدا إلى التفكير في عملية الحفاظ على السلطة، أكثر من التفكير في بناء الدولة وتحرير المجالات العامة والدفع بالنظام إلى لحظة من التقدم والتطور والانتقال إلى حالة الدينامية الجديدة.. دفعت الحماسة والنشوة اللتين امتلأ بهما حمروش وزمرته تحت العين الراعية للشاذلي بن جديد إلى تفجير ثلاث قنابل، ورموا بها في وجه الحرس القديم، وهي إزالة وزارات، الثقافة، وكذلك الإعلام، والمجاهدين.. وشعر الحرس القديم من المجاهدين أن الإصلاحيين يريدون تقليم قوتهم ونفوذهم كلوبي داخل أجهزة الدولة وبالتالي الحزب.. والعمل على تجريدهم من الامتيازات المادية والمعنوية، وهذا ما جعل حمروش يسارع إلى التأكيد أنه لا مشاكل لديه مع المجاهدين، فهو مجاهد ومن عائلة ثورية، ابن شهيد لكن ذلك لم يشفع له هذا "التطاول" على من كانوا ينظرون إلى الجزائر أنها ملكية لهم.. وفي قمة هذا الصراع بين الحرس القديم الذي كان يطلق على أعضائه، نعت البارونات، كان الشاذلي ينظر إلى صنيعته بعين الرضا خاصة ما بدأ يلحق بالأفالان من "إهانات" كان يصعب تصورها في السابق، ومن هنا فهم الحرس القديم من خصوم الشاذلي الذين راحوا يوسعون جبهة معارضتهم مستنجدين بكل الرموز القديمة التي شعرت أنها تدفع شيئا فشيئا إلى خارج لعبة التاريخ الجاري، ومنهم محمد الصالح يحياوي الذي حرم من التقدم إلى رئاسيات 1979، وعبد العزيز بوتفليقة الذي اضطر إلى اختيار المنفى، وشريف بلقاسم، ورابح بيطاط والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. لقد اعتبر الحرس القديم أكتوبر مؤامرة، خطط لها الإصلاحيون المختبئون تحت معطف الشاذلي بن جديد، ووصلوا إلى درجة تجريم أكتوبر، بحيث أصدروا بيانا موقعا من 50 عضوا في اللجنة المركزية للأفالان، كان من بينهم بوتفليقة وبيطاط ويحياوي، حيث اعتبروا أنه لم يعد ممكنا التمسك بالوحدة المظهرية "باسم الانضباط الحزبي الذي يتحلى به المناضلون تقيدا بقواعد المركزية الديمقراطية"، كما أنهم "يرفضون أن تبقى أصواتهم ممنوعة من الوصول إلى القاعدة" سيما وأنهم قد تبينوا أن صمتهم الظاهري "يستغل من طرف السلطة الحاكمة المتابعة تنفيذ خطة تحطيم حزب جبهة التحرير الوطني وإفراغه من محتواه النضالي وعناصره الوطنية المخلصة"، ويذهب البيان إلى أن مصير البلاد كان "دوما شغلنا الشاغل ولم تبارحنا هموم الوطن والمواطن لحظة، وكنا كلما سمحت الفرصة نبدي آراءنا في الأطر النظامية المتاحة، وحاولنا قدر الإمكان أن ننبه إلى خطر الانحرافات ومواقع تردي الأوضاع على شتى المستويات مفترضين في أصحابها حسن النوايا"، ويستأنف البيان قائلا "واليوم وقد استنفدنا كل سبل المعالجة في الإطار النظامي وأدركنا أن وجودنا في اللجنة المركزية لم يعد يجدي نفعا واقتنعنا بأن آراءنا ظلت، بفعل إرادة سياسية مبيتة حبيسة الجدران الشاهدة على ولادتها وهي معرضة لمزيد من الحصار سواء بالتعتيم الإعلامي المطلق أو بالتشويه المقصود، قررنا اختراق الصمت لمخاطبة إخواننا المناضلين النزهاء والمواطنين الشرفاء على كل المستويات، وبكل الوسائل، توضيحا لموقفنا مما يجري على الساحة، ومنعا لمزيد من التصدع في جسم الأمة التي يراد لها أن تسير في نفق مظلم"، ويمضي البيان على وتيرة متسارعة مسجلا "... لقد تعودنا من جبهة التحرير الوطني أنها لا تخلف الميعاد مع التاريخ، وإنما تعرف دائما كيف تجتاز الصعاب التي تعترض عادة الحركات الثورية الأصيلة، وكيف تخرج منتصرة من الفخاخ التي تنصب لها والمؤامرات التي تحاك ضدها على أن هذه الثقة المستحقة هي مفجرة الثورة المسلحة، ومسترجعة الاستقلال وبانية الجزائر العصرية. لا يجب أن يدفع بنا إلى التقليل من خطورة الهجمة الشرسة التي تحيط بها من كل الجوانب".. إن المآل الذي أوصلها إليها حكام اللحظة يستنتج من البيان "منذ ذلك التاريخ بسبب إصرار غريب على تقزيمها وتهميشها من طرف أولئك الذين اعتلوا سدة الحكم باسمها أحدث إحباطا عاما في صفوف المناضلين النزهاء وانهيارا في الثقة بينهم وبين المواطنين، وشرخا عميقا بينهم وبين دواليب الدولة، وصاحبت هذه الحملة محاولات مستميتة لزرع بذور الشقاق بين الأجيال وإبراز مسيرة البناء والتشييد منذ الاستقلال كسلسلة متواصلة من الفشل، بل وتبين إيجابيات هذه المسيرة عندما يكون الطمس مستحيلا والإلقاء بسلبياتها على كاهل جبهة التحرير مع أن العام والخاص يدرك أن أي سعي بشري لا يخلو من النقائص، وكم في ذلك من تنكر لتضحيات جيوش من الإطارات والعمال المدنيين والعسكريين، وكم في ذلك من إهانة لشعب بأكمله انصهر في بوتقة جبهة التحرير والجريمة التي اُرتكبت في حق التاريخ والتي نددنا بها خلال دورات اللجنة المركزية تكمن في ذلك اللبس بين السلطة الحاكمة وأجهزتها من جهة، وبين جبهة التحرير من جهة أخرى والذي أدى إلى تحليلات خاطئة وأحكام جائرة"، ثم يتساءل البيان "كيف يمكن السكوت إزاء سلطة تنتمي نظريا إلى حزب جبهة التحرير وهي تمارس تصرفات مخالفة تماما لنصوصه الأساسية؟! كيف يتضامن معها المناضلون الحقيقيون وهي تتخلى عن اهتمامات الفئات المحرومة؟! كيف نتضامن معها وهي تختار نظاما اقتصاديا، هو عبارة عن نظام قانون الغاب المؤدي حتما إلى أسعار لا يتحملها إلا الأثرياء والمضاربون والمحتالون؟! كيف نتضامن معها وهي تقوم بعملية واسعة النطاق تهدف إلى تصفية الإطارات المحنكة في كل قطاع وذاك بدون تمييز بل بتركيز واعٍ مخطط على كل من ناضل في ثورة التحرير وثورة التشييد؟! .. يتبع