استطاع المخرج الشاب يانيس يولونتاس، أن ينقل نبض الشارع اليوناني إلى الجمهور الجزائري، الذي تابع فيلمه الوثائقي ظهيرة الجمعة الماضي بقاعة الموقار. 89 دقيقة كانت كافية لنقل كتلة المشاعر الحزينة والأمل في آن واحد في غد يتحرر فيه المواطن من قيود العبودية المعاصرة، ويكسر الحظر الذي فرضته عليه الفاشية الجديدة. بدائل متفائلة صورها العمل، وشهادات حية لأزيد من ستين مقاوما كشف عن وجهه أمام الكاميرا وصرخ: "لن نعيش بعد اليوم كالعبيد". اليونان 6 سبتمبر 2010، الشارع يغلي في كل زاوية منه، لا مكان للحياة الهنيئة بعد أن أعلنت الحكومة إفلاسها و استسلمت لثقل الديوان المتراكمة عليها. البطالة في كل مكان، رجال في عز أعمارهم، بمستويات رفيعة، أطباء وأساتذة ومختصون في الكيمياء والعلوم، فقدوا مناصب شغلهم. أول فرد استنطقه يولونتاس كان حول الإشاعة القائلة إن اليوناني لا يعمل، فكان رده: "نحن شعب نعمل ونحب العمل، وكذبت الأسطورة القائلة بأننا شعب كسول ومتخاذل، في الحقيقة تعرض إلى مخطط للتفقير والتجويع والتشريد"، وهو الانطباع الذي سيتكرر على لسان كل فرد في الشارع أو المكاتب، على الأرصفة عائلات بكاملها تفترش الأرض في عز شتاء بارد لا يرحم، الكاميرا لا تفعل إلا تسجيل المأساة، بلا صوت خلفي ولا تعليق، أمام الانهيار اليومي في المجتمع اليوناني، لا يصلح الكلام للتعبير، وتبقى أوتار آلة البزق، تمنح العابرين أحن صوت عرفته الموسيقى العتيقة. كانت نزعة المخرج إلى الموسيقى جلية، وقناعته بأن لغتها تختصر ملايين الشعارات، وتحمل الناس إلى مزيد من الالتزام، وإلى الراب لجأ أيضا ليترك المغني يطلق العنان لغضبه، أما الأغنية التي اتخذ منها يولونتاس موسيقاه التصويرية فكانت لأغنيته "لن نعيش بعد اليوم كالعبيد"، التي كتب نصها رفقة ابنته ليزا، وأدتها فرقة "ريبتيكو تال يمانيا غزينا"، سجلت انتشارا واسعا، ونالت اعجاب آلاف المعجبين. في ربيع اليونان 2013، تجول يولونتاس مجددا في ساحات العاصمة، وكان سؤاله واضحا، ماذا حل بالناس بعد ثلاث سنوات ثورتهم على الحكم الفاسد؟ الإجابة جاءت بلا تعليق أيضا، فوراء الهدوء الحذر، تعج المقاهي والمطاعم والأزقة، بحوارات ثنائية وجماعية سجلها المخرج، الكل منشغل بقضية التأمين الاجتماعي والتغطية الطبية، بعد فقد الرجال والنساء مناصبهم، وتحولوا إلى بطالين قهرا، ما العمل في هذه الحالة؟ لجأ معظم الإطارات المسرحة إلى العمل التطوعي لرعاية المحتجين، فأزيد من 50 بالمائة من السكان غير مؤمنين اجتماعيا، وللتأثير أكثر في المتلقي، جالت الكاميرا بين المتشردين، تحت أغطية سميكة لا تحميهم من غدر الزمن، بعدها عادت إلى ساحة سانتاغما حاضنة المتظاهرين، وحيث رفع شعار المعارضين للسلطة الحاكمة، والمنتقدين لسياسة التقشف على حساب المعوزين، والثائرين ضد نظام رأسمالي يغني الأثرياء ويزيد الفقراء فقرا، وقد تطرق المتحدثون إلى آثار الالتحاق بالاتحاد الأوروبي وكيف تحولوا إلى مواطنين بغير هوية، وهم من أرض لها تاريخها العريق. يعطي الفيلم الكلمة للمقاومين اليونانين، يظهر قدرتهم على خلق البديل، وإرادتهم في التحرر أخيرا من "العبودية المعاصرة" التي بدأت تنتشر في كل أوروبا وبأشكال جديدة، ومتعددة لكنها تبقى امتدادا لفكرة استغلال الإنسان لأخيه الانسان. يضم أكثر من 60 متدخلا، قدم شهادته أمام الكاميرا وبوجه مكشوف أيضا، عبروا عن نزعتهم الفوضوية والمعارضة للسلطة، والثائرة وحتى انتمائهم إلى اليسار المتطرف. كان يولونتاس ذكيا في نقل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية أيضا في المجتمع اليوناني، بعد أن تكرست قناعة المواطن، بأنه ضحية "فاشية جديدة"، روادها رأسماليون متعطشون لمزيد من الأرباح. تعرفنا في الفيلم، على محاولات الناس للتخلص من الإشهار الكاذب، المروج لثقافة الاستهلاك غير الصحية والمفلسة لجيوب البسطاء، وكيف يواجه الفرد أيضا الحصص التلفزيونية السياسية التي تصب كلها في الدعاية واللغو السياسي. عمل تتزاحم فيه الواقعية بريتمها الحزين المؤثر وبلمسة التفاؤل المغروسة في ذات أناس قرروا إيجاد البديل دون انتظار حلول سياسية، إذ يعود المجتمع -حسب الفيلم- إلى مبادئ التضامن والتكافل الاجتماعي، تقنين الاستهلاك، التخلص من الرفاهية الكاذبة، العمل الجمعوي، الأسواق الجماعية، التبرعات والهبات، تشجيع الحرف التقليدية كالصابون والمجوهرات، ناهيك عن صناعة رأي عام متحرر من التعليمات الفوقية، عن طريق وسائل إعلام متجددة، إذاعات غير معترف بها، لكنها تنافس الإعلام الرسمي كثيرا. للإشارة يستمد الفيلم عنوانه من شعار رفعه المتظاهرون أثناء الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلد في ماي 2010، "لن نعيش بعد اليوم كالعبيد" انتشر سريعا بين الناس، كتب في كل مكان يمكن أن يحوي كلمة انتفاضة ضد الأوضاع، على الجدران في شكل "غرافيتي"، على صخور القرى والمدن الساحلية الصغيرة، كما دونت العبارة على اللوحات الإشهارية، وأخرجت في شكل ومضات فيديو نشرت عبر الشبكات الاجتماعية. الشعار أصبح يحمل نبض شارع ثائر، يسكن في ذاتهم كل يوم، بل بات أغنية فيها كثير من الحزن والشاعرية في آن واحد، تبث يوميا على أمواج الإذاعات السرية التي أنشئت بعد 2010 لمواجهة الإعلام الرسمي.