امتلأت صفحات النت والإعلام بعبارات التضامن مع الأب إبراهيم سروج صاحب مكتبة السائح النفيسة بطرابلس القديمة.. حيث أضرم مجهولون النار في مكتبته العريقة بمدينة طرابلس شمالي لبنان، وتضم نحو 80 ألف كتاب. وأتلف الحريق ثلثي محتويات مكتبة "السائح"، التي يملكها قس مسيحي، بينما اتلفت مياه فرق الإطفاء بقية الكتب. وكان الأب سروج تلقى تهديدات من مجموعات مسلحة في أسواق المدينة، قبل يومين، على خلفية اتهامه بإصدار منشور مسيء للإسلام عثر عليه في المكتبة. وقد التقى القس، ابراهيم سروج، مالك المكتبة بعلماء دين مسلمين وتبين أنه ليس مسؤولا عن هذا المنشور. وكانت المكتبة العريقة تضم كتبا إسلامية ومصاحف. وتقع في قلب طرابلس، ثاني أكبر المدن اللبنانية وهي إحدى معالم هويتها الثقافية والحضارية، الأمر الذي أدى إلى موجة استنكار عمّت المدينة، حيث اعتبر أحد الوزراء اللبنانيين أن "احراق مكتبة كاهن أورثوذكسي جليل، هو في المضمون والجوهر بداية إحراق لتاريخ ومستقبل مدينة لم تكن يوما، في كل أزمانها، إلا مدينة الانفتاح والسماحة والعيش الواحد، مدينة المسلمين والمسيحيين معا في تفاعلهم الحضاري الذي منح لطرابلس وجهها وهويتها". منذ حرق مكتبة الاسكندرية إلى حرائق هولاكو وحتى يومنا، يعتبر إحراق مكتبة الإسكندرية أكبر كارثة حلت في تاريخ التدمير والحرق لأنها كانت في زمانها من أكبر المكتبات في العالم، حيث جعلت كتبها العامرة شعيلا للحمامات لأربع سنوات.. ثم ابن رشد الذي أحرقت كتبه بالأندلس في عهد ملوك الطوائف، وأيضا المعتزلة الذين حوربوا وأحرقت كتبهم، وتحت عنوان (السلطة واغتيال الكتب) سرد المؤلف (ناصر الحزيمي) في كتابه (حرق الكتب في التراث العربي) أحداثا وفق تسلسل زمني منطلقا بسنة 82 ه، وبين من تحدث عنهم الرازي -محمد بن زكريا الرازي الطبيب الفيلسوف- حيث قال له الوالي (ما اعتقدت أن حكيما يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة يشغل بها قلوب الناس.. في ما لا فائدة فيه... لا بد من عقوبتك على تخليد الكذب في الكتب. ثم أمر أن يضرب بالكتاب الذي وضعه على رأسه إلى أن يتقطع فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء في عينيه) وتلك حادثة تدل على تدنٍ في العقلية التي حاكمت وعاقبت محمد بن زكريا الرازي الذي يعتبر الطبيب الأول في التاريخ. كما ذكر د. منصور سرحان، مدير إدارة المكتبات العامة بمصر، في محاضرة له، أمثلة عن حرق مكتبات مهمة مثل مكتبة بني عمار في القرن العاشر الميلادي حيث أسس بنو عمار مكتبة ضخمة لهم بطرابلس سورية تحمل اسمهم، وتكاملت مقتنياتها بنهاية القرن العاشر الميلادي. فقد جمعوا لها الكتب الكثيرة والمخطوطات النادرة، وقد قدر شو شتري في كتابه (مختصر الثقافة الإسلامية) مقتنيات مكتبة بني عمار بثلاثة ملايين كتاب، وكان لها أكثر من مائة وثمانين ناسخا يتناوبون العمل بالمكتبة ليلا ونهارا. وقد أرجع سرحان سبب حرق مكتبة بني عمار إلى توهم الصلبيون أن جميع محتويات المكتبة هي نسخ القرآن الكريم.. وأيضا مكتبة سابور التي أسست في عام 381 ه في مدينة بغداد. التي تنسب إلى مؤسسها أبو نصير سابور بن أردشير. و تشير المصادر التاريخية إلى أن عدد الكتب التي احتوتها بلغ زهاء 10400 كتاب، وكان من بين المترددين عليها أبو العلاء المعري، وقد استمرت المكتبة تقدم خدماتها للجميع طوال سبعين سنة، ثم أحرقت عند مجيء الملك طغرل بك في سنة 450 ه، وقال سرحان في محاضرته أن بين أهم المكتبات التي أحرقت على أيدي الحكام العرب (مكتبة ابن حزم الأندلسي) المتوفى سنة 456 ه/1063 م. ويعد ابن حزم أشهر ممثلي الثقافة العربية في الأندلس. ونظر إليه البعض بعين الحقد والحسد وأثاروا حوله الجدل مما حدا بالمعتمد بن عباد صاحب أشبيلية أن يأمر بحرق كتبه علنا.. وواصل سرحان قائلا: تعد مكتبة عبد السلام بن عبد القادر بن أبي صالح بن جنكي دوست الجبلي البغدادي المدعو بالركن، المكتبة الثانية التي تحرق بأمر حاكم عربي هو الخليفة العباسي الناصر لدين الله. وكانت عوامل الحقد والجهل والتعصب الأعمى السبب الرئيسي في تدمير ونهب وحرق وضياع المكتبات الإسلامية الرئيسية. وذكر أن مكتبة بيت الحكمة ببغداد ظلت ردحا من الزمن تمثل الإشعاع الفكري العربي الإسلامي منذ أن أسسها هارون الرشيد ورعاها ابنه المأمون إلى حين تدميرها على أيدي المغول عند اجتياحهم بغداد، وألقوا بجميع محتوياتها في نهر دجلة وتحول ماء دجلة إلى اللون الأسود وهو لون المداد المستخدم آنذاك. كما دمر المغول بالإضافة إلى مكتبة بيت الحكمة ستة وثلاثين مكتبة عامة أخرى ببغداد. وقال إنه لم يكن مصير دار العلم بالقاهرة أفضل من مصير بيت الحكمة ببغداد، وكانت تعد أضخم مكتبة عرفها التاريخ الإسلامي. أما المكتبة الرئيسية الثالثة التي دمرت فهي مكتبة قرطبة التي اهتم بها الحكم الثاني. وبلغ عدد الكتب التي ضمتها المكتبة قرابة أربعمائة ألف كتاب. وجاءت الحروب الصليبية التي استمرت زهاء قرنين كاملين أي من عام 1096 م إلى عام 1291 م لتقضي على ما تبقى في العالم العربي من كتب ومكتبات. والآن، مع حرق جديد للكتب والمكتبات نقول: هل الظلاميون الذين أحرقوا الكتب يعودون من جديد؟ لا يقف في وجه الرصاصة إلا الكلمة، ولا يبدد الانغلاق والحقد سوى المعرفة. يبقى لدينا الإصرار على المقاومة لنبني الدولة المدنية الديموقراطية التعددية القادرة على استيعاب الجميع وأيضا بناء الإنسان القادر على استيعاب الآخر والقادر على التسامح والحوار.