كثيرا ما يتساءل المسلمون عن سر احتفاظ الإسلام بتراثه من الأحاديث النبوية الشريفة وكتب السلف ومؤلفاتهم، خلافا لأصحاب الحضارات والديانات الأخرى التي ضاعت آثارهم ولم يبق لديهم أسس دينية يستندون ويرجعون إليها، لكن الأسرار تتكشف حينما نتحدث عن المكتبة الظاهرية بدمشق التي استطاعت على يد عالم جزائري أن تبقى المرجع الرئيسي للمسلمين. * تعرضت الأمة الإسلامية عبر تاريخها لكثير من الأزمات والكوارث، من احتلال ومحاولات الغزاة القضاء على الإسلام، مثلما فعل المغول بمكتبة الإسلام الرئيسية ببغداد، ومثلما فعل الصليبيون وأحفادهم من محارق للتراث الإسلامي في الشام ومصر، ومثلما حفظ الله كتابه العزيز من الضياع، حفظ علماء الأمة المخلصون سنّة نبيهم (ص) وآثار صحابة الرسول رضوان الله عنهم ومجهودات أهل العلم من أبناء هذه الأمة. وتمثل المكتبة الظاهرية أنموذجا صادقا لجهاد العلم الذي خاضه أجدادنا الأوفياء، حتى صارت هذه المكتبة أكبر وأشهر مكتبات الإسلام، ومنها تغذت بقية المكتبات الإسلامية في أنحاء العالم بأمهات الكتب الإسلامية، ليبقى الأصل من المخطوطات النادرة في هذا الصرح الإسلامي الكبير، وحينما وصلنا مكتبة المسلمين الكبرى، اكتشفنا الكثير من الأسرار. * حفظت كتب السنة والحديث من الانقراض * * في حي باب البريد في مدينة دمشق القديمة أنشئت المدرسة والمكتبة الظاهرية سنة 676 هجرية/1277 ميلادية، وكان هذا المكان في الأصل دارا للعالم الإسلامي العقيقي المتوفي سنة 368 هجرية، والذي أوصى أبناءه أثناء احتضاره بوهب الدار للعمل الخيري، وأن تقام فيها مدرسة لتعليم أبناء المسلمين أمور دينهم والعلوم الحياتية، إلا أن هذه الوصية لم يكتب لها التنفيذ إلا في عصر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، الذي أمر ببناء المدرسة والمكتبة فيها، بعد أن لاحظ أن التراث الإسلامي في سبيله للانقراض بعد أن دمر وأحرق المغول مكتبة الإسلام الكبرى أثناء هجومهم الوحشي على بغداد، وبذل المسلمون جهودا عظيمة، وأنفقت أموال باهظة، وسخر بيبرس حياته من أجل بناء مكتبة كبرى للمسلمين تحفظ كتب الحديث والسنة والمراجع الدينية والعلمية الهامة، وقد كان له ما أراد، لتصبح مكتبة الظاهرية أكبر مكتبات الإسلام، التي ضمت رفوفها أمهات الكتب الإسلامية لتحفظ للإسلام موارده العلمية. * جزائري يحفظ تراث الأمة من الضياع * يعتبر باب المكتبة الظاهرية ذو الزخارف الرائعة من أجمل نماذج العمارة الإسلامية في مدينة دمشق والعالم، ولايزال هذا الباب الضخم قائما قويا يحفظ خلفه تراث وأرشيف المسلمين. ويذكر أن المكتبة الظاهرية تعرضت لمحاولات اقتحام وسطو من اللصوص والمهرولين وراء القطع والمخطوطات الأثرية النادرة، وفي سنة 1296هجرية 1879 ميلادية قام أحد العلماء الجزائريين، والذي ولد في دمشق من أبٍ نفته فرنسا مع الأمير عبد القادر، ويدعى »طاهر الجزائري« قام رفقة مجموعة من علماء الإسلام آنذاك، وعلى رأسهم »سليم البخاري« بالبحث عن الكتب المفقودة من المكتبة، وساعدهم والي دمشق بالبحث في جميع الأقطار الإسلامية حتى تم تجميع 80 في المائة من الكتب الأثرية والتاريخية الهامة، بل وسعى هؤلاء العلماء إلى إثراء هذه المكتبة، فجعلوها خلال سنوات من أغزر المكتبات في العالم الإسلامي بل وفي العالم أجمع، لما تضمّه بين جنباتها من تراث العالم، ومنذ ذلك التاريخ لاتزال المكتبة الظاهرية تحتل هذه المكانة الرائدة بين مكتبات الإسلام. * 10 مكتبات في مكتبة واحدة * * ومن المعروف أن علماء المسلمين جمعوا الكتب والمخطوطات الهامة من المكتبات العشر التي كانت منتشرة في الشام، وتشمل مخطوطات الحديث والقرآن التي كتبها الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت هذه الخطوة من أجل حفظ هذه المخطوطات من الضياع، وهذه المكتبات العشر هي: * 01 - المكتبة العمرية التي أنشأها الشيخ أبو عمر المقدسي المتوفى سنة 607ه، وشملت مخطوطاتها المذهب الحنبلي. * 02 - مكتبة عبد الله باشا: وتضم مجموعة الكتب التي أوقفها الوزير عبدالله باشا العظم وهي الكتب التي حفظت في دور الأمويين ومن تلاهم، وهي عبارة عن مدونات الحديث الشريف الذي جمعه الصحابة. * 03 - مكتبة سليمان باشا، وتضم مجموعة المخطوطات التي وقفها والي دمشق سليمان باشا لأهل العلم وجعلها في المدرسة السليمانية التي بناها عام 1150 هجرية بباب البريد، وبلغ مجموع ما نقل منها إلى الظاهرية 127مجلدا، منها أحد النسخ الأصلية للمصحف الشريف. * 04 - مكتبة الملا عثمان الكردي، وكان مقرها في المدرسة السليمانية، ونقلت إلى الظاهرية مع مجموعة كتب السليمانية، كان عدد مخطوطاتها 313 مجلدا. * 05 - »المكتبة المرادية«، التي نقلت منها إلى الظاهرية 246 مجلدا. * 06 - المكتبة السميساطية: وكانت في المدرسة السميساطية الكائنة شمالي الجامع الأموي، وهذه المدرسة كانت دارا لأبي القاسم علي بن محمد السلمي السميساطي، وقد ضاع العديد من مجلداتها ولم يصل للظاهرية منها إلا 78 مجلدا. * 07 - المكتبة الياغوشية: وكان مقرها مدرسة سياوش باشا. * 08 - مكتبة الخياطين: وقفها الوزير اسعد باشا العظم عام 1165ه بعد أن جمع فيها مجموعة من الكتب وجعلها في مدرسة. * 09 - مكتبة الأوقاف: وقد تم جمع مجموعاتها من بقايا بعض المكتبات القديمة، وبلغ عدد مجلداتها التي نقلت إلى الظاهرية 67 مجلدا. * 10 مكتبة بيت الخطابة: وكان مقرها في حجرة بيت الخطابة في الجامع الأموي، وقد تلف كثير من محتوياتها إثر الحريق الذي حدث في الجامع عام 1893 ميلادي ولم يصل منها إلى الظاهرية إلا 73 مجلدا.