اختزل العقل العربي عموما، والمصري بشكل خاص الجزائر في لحظة ورقم كادا أن يكونا مطلقين وشبه ميتافيزقيين، وهما لحظة الثورة ورقم المليون شهيد·· ومن خلالهما تم الاختزال الكلي للجزائر، أمة ومجتمعا فأحلت سيادة القداسة محل التاريخ والجغرافيا، واكتسحت حالة الحاضر والمستقبل معا، ولم تقم الميديا إلا على تعميم هذه النظرة وغلغلتها في أعماق وسراديب الوجدان العربي، ومنها طغى التوهم الثابت على الحقيقة المتحولة والمتغيرة والجهالة الباروكية على المعرفة كجسد من حيث تشكل الملامح، وتطور الجزئيات وتناميها إلى صور متعددة ومتنوعة·· ظلت الجزائر بؤرة مجردة، بدون لون وصوت، بدون لحم وعظم، وبدون شكل، وظلت قابعة في مكان لا يتغير وفي قلب زمان ثابت، زمان غير متحول، زمان يرتبط بالتضحية الصاخبة وبالدم وبلحظة لم تعد حية اليوم، وإن كانت حية فهي محنطة في ضريح التاريخ·· هذا الاختزال شكّل صورتين للجزائر، صورة معلومة وأخرى مجهولة، لكن هذه الصورة المعلومة والممثلة في رمزية الشهادة والموت كانت على حساب رمزية الحياة وانبجاس السيرورة المتقدمة للفرد والجماعة الجزائريين··· لقد توقف الزمن في لحظة أخرى·· ومع تنامي الأحداث وتشابكها أضحت هذه اللحظة بقدر مثاليتها وصفائها الأسطوري شديدة الهشاشة أمام محنة الاختبارات اليومية لصدمة الوقائع والتحولات والقطائع·· ولقد كانت معركة التأهل إلى المونديال بين الجزائر ومصر مثالا حيا على هشاشة الصورة التي أنتجها العقل العربي والمصري بشكل خاص عن الجزائر، والإنسان الجزائري·· لم تصمد الصورة التي كانت تبدو قوية، ومعتدة بنفسها بالقدر المطلوب، لقد انهارت بشكل مريع ومثير للغثيان والترويع·· في لحظة يكتشف مثل هذا العقل أنه كان مخدوعا ومغفلا، وأن ما كان ينتجه ويعيد إنتاجه كان مجرد وهم، أو بالأحرى مجرد صورة تنم في الأساس عن ''أصالة طيبته وعن عمق نبالته، بينما هذا الشقيق الذي أصبح آخر أو الجحيم بالمفهوم السارتري، ها هو يكتشف، وهو تحت وقع وهول الصدمة أنه لم يكن كذلك، صار عاقا ورمزا للعدوانية والكراهية والشر···'' لم يعد الشقيق الأصغر، المغلوب على أمره، بل أضحى آخرا، مليئا بالضغينة ومستعدا على إلحاق الأذى بالأخ الكريم، الأخ الأكبر، تارة، وتارة أخرى أضحى ابنا عاقا يريد قتل الأب، ويحقق ثأره عن طريق الجريمة·· وهذا الخطاب لم ينتجه فقط الإعلاميون، بل أيضا عدد كبير من الكتاب والمفكرين من أبناء ثورة يوليو الولادة للناصرية كروح جديدة للقومية العربية المناهضة للاستعمار والإمبريالية في ذلك الوقت·· ويعد الكاتب الصحفي والروائي يوسف القعيد، من أهم أسماء هذا الجيل، جيل الثورة والقومية التقدمية ومناهضة الاستعمار·· في مقال له، صدر بجريدة ''الدستور'' المصرية، بتاريخ 25 نوفمبر تحت عنوان ''ما الحكاية بالضبط؟! ضياع الحلم القومي العربي أم عدوانية الجزائر؟ أم تراجع دور مصر؟''، يتساءل القعيد عن المكان والزمان والكيفية التي تمت في ظلها الضربة الأولى التي أصابت ''الحلم القومي العربي''، هل هي نكسة جوان ,1967 أم زيارة السادات إلى الكنيست في تل أبيب في التاسع عشر من نوفمبر ,1977 أم يوم غزا صدام حسين الكويت في أغسطس ,1990 أم مرد ذلك إلى ''تبدّل الأحوال وانقلاب القيم، أم يعود ذلك إلى ظهور أجيال عربية جديدة لم تتعلم في مصر ولم تأخذ حلمها من مصر، بل أخذته من أمريكا وأوروبا عندما غادرت أوطانها''؟!· لا يحدد يوسف القعيد معنى الحلم القومي العربي·· يطرحه وكأنه بداهة، يطرحه ضمنا وكأنه مرادفا للناصرية عندما طرحت بديلها في زمن محدد·· لكن الناصرية كإيديولوجية تحرير قد وصلت إلى حدودها التاريخية والسياسية، وهذا بالرغم أنها علامة من علامة تشكل الوعي الوطني والقومي التحرري في سياقات تاريخية معينة·· سياقات محلية وإقليمية ودولية، كانت سمتها الرئيسية الحرب الباردة بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين قوى التحرر الوطني والأنظمة الكولونيالية العتيقة والكولونياليات الجديدة·· الدور الريادي لمصر الناصرية في المنطقة العربية كان محكوما بروح هذه الجدلية التاريخية بين القوى المهيمنة والقوى المنخرطة في لعبة إزالة الاستعمار··· ولم تكن العودة الظافرة للملك المغربي محمد الخامس، وانتزاع التونسي الحبيب بورقيبة استقلال بلاده عن طريق التفاوض والمناورة السياسية من الفرنسيين، وهزيمة الجيش الفرنسي في معركة ديان بيان فو، واندلاع حرب التحرير الجزائرية سنوات قليلة بعد مجزرة 8 مايو التي هزت الرأي العام الدولي، والتي ذهب ضحيتها آنذاك حسب الرواية الرسمية الجزائرية، 45 ألف قتيل على يد العسكر الفرنسي، إلا مؤشرات على يقظة ونهضة الوعي التحرري في إفريقيا وآسيا والمنطقة العربية·· إن الناصرية لم تكن إلا رافدا -وإن كانت رافدا مهما من روافد حركة التحرر العربية- التي عبرت عنها أكثر من محاولة وتجربة في بناء صرح ونسج الحلم القومي العربي· تبدو المرارة واضحة في تساؤلات القعيد عندما يتحدث عن موت الحلم القومي العربي·· لكن هذه المرارة ليست متأتية من تراجيديا موت هذا الحلم، بل لأن هذا الحلم ارتبط ''بتراجع دور مصر وغيابه··''، وحسبما يذهب إليه القعيد، فإن نجاح الحلم مختزل في دور مصر دون غيرها·· وهنا تظهر الأعراض الأولى للمرض الذي يعاني منه العقل المصري، بحيث لا يرى الآخرين إلا من خلال ذات مصر المضخمة·· إنه عقل أعمى، عاجز عن استيعاب التطورات من خارج الذات المصرية·· فكل تطور خارج دائرة هذه الذات، هو ملغى منذ لحظة البدء·· لا توجد حسبه، سوى هوية واحدة، هي هوية مصر، وكل هوية عربية أخرى لا يمكن أن تكون في أحسن الأحوال إلا امتدادا أو صدى للهوية الأم، وهي هوية مصر··· هذا التشبث إلى درجة الاستماتة بأصالة وعظمة الهوية الأم، أو هوية الشقيقة الكبرى لم يعمل إلا على تخريب العقل المصري من الداخل، وإثارة نزيف عنيف بداخله قاده إلى حالة مشوشة أفقدته توازنه وأصابته في صميمه بانحسار في النظر·· إلى وقت طويل، كان ''الحلم القومي العربي'' مرتبطا في المخيالات العربية بتحقيق الوحدة السياسية بين العرب التي تكون الطريق المثالي ''لاستئصال إسرائيل من الجسد العربي''، وبالتالي تحرير فلسطين، لكن الواقع كان أعنف مما كان يحتمله الحلم، أو يحمله في طياته·· كانت هزيمة يونيو ,1967 نهاية للحلم، نهاية تراجيدية أفقدت الوجدان العربي ثقته المفرطة بنفسه وبحكامه، وتوالي الانكسارات والهزائم والإحباطات التي امتحن بها على حدا سواء، العقل العربي والوجدانات العربية إلا تشديد ليس فقط على موت ''هذا الحلم القومي العربي''، بل تحول إلى كابوس يومي مولد للأشباح والغيلان من كل نوع وشكل جعل من طرح ''سؤال ما العمل؟'' يبدو عسيرا، إن لم نقل مهمة شبه مستحيلة من قبل العقل العربي عموما، لم يفسر لنا القعيد لماذا تخلت مصر عن دورها في الريادة أو لماذا تخلى عنها دورها القيادي، لكنه في مقابل ذلك، راح يؤكد لنا أن ما جرى في الخرطوم حسب رواية الميديا المصرية سببه الرئيس ''تراجع الدور المصري وغيابه'' هو ''جوهر ما جرى''، هكذا ''يعتقد'' القعيد·· وينتهي بعد أن سلم ''بموت الحلم القومي العربي'' أن مصر ''ستنتهي وتموت'' إن هي ''تخلت عن دورها''، ويظهر هنا الإرباك في العقل والتناقض صارخا·· فمن جهة يرجع ما حدث في الخرطوم إلى ''فقدان مصر لدورها الريادي'' ومن جهة ثانية يتمنى أن ''لا تتخلى مصر عن دورها'' لأن في ذلك ''موتها ونهايتها''!! وفي عنوان فرعي من نفس المقال، يروي لنا يوسف القعيد صورته عن الجزائر من خلال تجربة شخصية·· يقول أنه قام لأول مرة في حياته بزيارة للجزائر ويكون حدث ذلك في المنتصف الأول من الثمانينيات بدعوة ''من الرئيس الفلسطيني لحضور اجتماعات العمل الوطني الفلسطيني''، وكان في غاية ''السعادة عند بداية الرحلة''، لكن سرعان بعد العودة من الرحلة انقلبت ''سعادتي حزنا''· وقصة هذا الانقلاب من السعادة إلى الحزن تتمثل في الأمر التالي: - أنه ذاهب لبلد المليون شهيد - أنه في طريقه إلى معقل العروبة وسط شمال إفريقيا، بلد المليون شهيد - وإنه سيكتشف في كل مكان شاهدا يقول إن مصر كانت هنا - وأن المصريين أخذوا بأيدي الجزائريين نحو التحرير - وأنه سيكون مرفوع الرأس·· - وأنه كان يتصور ما أن ينطق لسانه حتى يتعرف عليه من حوله - وأنه سيسمع قصص الأمجاد الأولى (طبعا أمجاد المصريين في الجزائر) إن الذي يقول مثل هذا الكلام، ليس برجل شارع، ولا واحد من عامة الناس، ولا ضحية من ضحايا الدعاية القوموية المحلية والمسكونة بهوس الريادة بأي ثمن.. الذي يتكلم، ويدلي بهذه الشهادة، هو من أبناء ثورة يوليو، ومن المثقفين الذين اختاروا الدفاع بالأدب عن الرجل المصري البسيط، ومن الذين انتصروا بكتاباتهم للقضايا العربية العادلة، ومن الذين ينتظر منهم القارئ الحصيف أن لا يكون وقودا لحرب يشعل نيرانها أصحاب النظر القصير، إن يوسف القعيد لم يقل لنا عن تلك الدلالة، دلالة انعقاد اجتماعات العمل الوطني الفلسطيني على أرض الجزائر في تلك الفترة الحرجة من حياة المنظمة والمقاومة الفلسطينية.. ولم يقل لنا أن في تلك الفترة التي أسماها بفترة العمل الفلسطيني.. كان الإجتماع التاريخي للإعلان عن ميلاد الدولة الفلسطينية.. ولم يقل لنا أن الجزائر كانت لا تزال صامدة لاحتضان كل حركات التحرر الوطني، من فلسطين إلى إفريقيا، إلى أمريكا اللاتينية.. وكان يعني ذلك في تلك الفترة تحديا للغرب وإسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية... وكان يعني ذلك أيضا إرادة صمود، بعد انفراد الرئيس المصري أنور السادات بصلح منفرد مع إسرائيل ودخول الدبابات الإسرائيلية إلى لبنان في أغسطس من العام 1982 وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت.. لم يقل لنا أن الجزائر بسبب مواقفها تلك، كانت على عتبة أبواب دفع فاتورة ذلك.. وكان الثمن بعد سنوات قلائل باهظا، وكاد يعصف ببلد.. ''المليون شهيد'' إلى خارج التاريخ، وخارج كل زمن... إن الفارق الزمني بين حركة الضباط الأحرار التي أزاحت الملك فاروق من على سدة العرش في يوليو ,1952 واندلاع حرب التحرير الجزائرية في الفاتح من نوفمبر 1954 يتمثل في عامين.. وهذا يدل أن الثورة الجزائرية كانت محطة نوعية لنضال وطني سياسي ومسلح طويل الأمد وعميق النفس.. وهي ثمرة مقاومة شرسة وليست صناعة مصرية وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال تنكرا، لما قام به جمال عبد الناصر من مجهود في الدعم المادي والسياسي للثورة الجزائرية، وبقدر ما كان الدعم الناصري للثورة الجزائرية على صعيد المعركة الإعلامية والسياسية، كانت الثورة الجزائرية دعما لمصر الناصرية بإلحاقها الهزيمة التاريخية بأكبر قوة استعمارية وإمبريالية، والدفع بالقومية الناصرية إلى الواجهة العالمية كقوة سياسية وإقليمية في ميدان ريادة حركات التحرر العربي...! إن الذين استشهدوا وهم يقاومون ببسالة أعتى قوة استعمارية هم جزائريون آمنوا بوطنهم وانتمائهم إلى الإسلام والعروبة...