يؤكد الكاتب الصحفي المولع بتاريخ الجزائر الحديث وخاصة الحركة الوطنية، محمد عباس، أن الإعلام عبر ما يقدمه من شهادات تاريخية يوفر مادة أولية مهمة للباحث في مجال التاريخ، مضيفا أن هذا الأخير يترك فراغا كبيرا في مجال تخصصه... كيف تابعتم ما يثار في الصحافة، هذه الأيام، حول تصريحات ياسف سعدي والماضي التاريخي للسيدة الزهرة ظريف بيطاط؟ ياسف سعدي يعتقد نفسه هو التاريخ، لكنه في الحقيقة مجرد شاهد على أحداث معينة وليس كل الأحداث، وشهادته في هذا الإطار أو غيره تؤخذ بعين الاعتبار ولكنها تبقى بدون قيمة إذا لم تكتمل مقاربتها بشهادات الفاعلين الباقين والوثائق المتوفرة في إطار الشهادة المقدمة. زهرة ظريف نفسها في مذكراتها التي صدرت، حديثا، اعتمدت في بعض المسائل على مذكرات وشهادات أناس آخرين، وهذا أمر في غاية الأهمية. عودة التصريحات الإعلامية التي لها علاقة بالمسائل التاريخية، تعيد فتح باب قضية التخصص من جديد، فالكثير من الأكاديميين يرون في ما يقدمه الصحفي، خاصة في إطار الثورة، تجاوزا للحقيقة بشكل عام والحقيقة العلمية بشكل خاص، لصالح الإثارة الإعلامية، ربما تكون أكثر شخص قادر على الإجابة عن هذه الإشكالية، لأنك صحفي عُرفت بشغفك الدائم بالتاريخ والتأليف فيه؟ أغلب الصحفيين الذين شغفوا بالتاريخ لم يتعاملوا مع الكتابة فيه من باب الإثارة، وإنما الاهتمام الحقيقي بالمسائل والمسارات التاريخية، خصوصا إذا كان الصحفي جاهزا من حيث التكوين، أي ملم بموضوع الاختصاص ويتمتع بالاطلاع الضروري. من تجربتي الشخصية عندما كنت أسجل أي شهادة أكون على بينة من الأمر وأحاول الإحاطة بالموضوع قبل لقاء صاحب الشهادة كما أسعى لاستخراج أشياء جديدة منه، وعملي في الأخير عبارة عن مادة أولية يقوم المؤرخ، لاحقا، بتمحيصها. في هذا الإطار، يقول الأستاذ بلقاسم سعد الله -رحمه الله- التاريخ ثلاثة مستويات، الأول: التاريخ الرسمي الذي فيه الحماسة الوطنية والاهتمام وتضخيم الأشياء الإيجابية... والثاني: التاريخ الشعبي وهو مفيد لسد الفراغ في مرحلة معينة، أما المستوى الثالث فهو الأكاديمي الذي يسعى لتقديم الحقيقة، وهذا الأخير يبقى ككل الحقائق مفتوحة لأنها مرتبطة بالرواية والوثائق الآنية القابلة مستقبلا للتغيير إن ظهرت تفاصيل وأدلة جديدة. وهل ما يقدمه الصحفي يرقى إلى المستوى الثالث من التاريخ؟ شخصيا ساهمت بمعلومات قدمتها في تصحيحات مهمة، على سبيل المثال دور اللجنة الثورية للوحدة والعمل الذي أكدنا من خلال البحث والعمل أن مهمتها انتهت نهاية جوان 1954 أي قبل اجتماع ال 22، رغم أن الكثيرين حتى الفرنسيين كانوا يختلفون في ذلك. وأيضا قضية المنظمة الخاصة التي كان يشاع أنها اكتشفت بتبسة سنة 1950، بينما أكدنا أن مصالح الأمن الفرنسية تفطنت لوجودها بعد عملية بريد وهران وظلت تتابع الأمر إلى أن أوقعتها نهاية 1949 بوهران. وهذه أمور كشفتها عبر شهادات حية، لأن هذه الأخيرة (وثيقة حية) أكيد هناك فيها بعض الذاتية من قبل المجاهدين، فهناك من أضاف أشهر لتاريخ التحاقه بالثورة وهناك من حاول تصوير نفسه كصانع للحدث... لكن هذه الأمور لا تنقص من قيمة الوثيقة الحية لأن هناك طرقا للتأكد من المعلومات الواردة فيها. لكن دائما هذه المعلومات كانت تعد ذاتية، وبالتالي المؤرخ يتوجس من توظيفها؟ المذكرات فيها معلومات ثمينة، لأنها تفيد المؤرخ في قراءة اللحظة التاريخية وتكمل الوثيقة الموجودة، ويمكن للمختص التأكد من المعلومات بطرق عدة، كما سبق وأشرت. من يعرفكم يعرف مدى اطلاعكم على جديد البحث العلمي والإصدارات الخاصة بالحركة الوطنية، هل تعتقدون أن الباحث الجزائر يقدم مستوى جيدا في البحث في هذا المجال؟ شخصيا تطوعت لسد بعض الفراغ الذي يخلفه تأخر الباحثين الجزائريين في مجال البحث التاريخي، فما قدمه قداش أو سعد الله وغيرهم يعد قليلا جدا مع تشعب الحركة الوطنية بأسمائها وأحداثها... وهي بحاجة إلى جهد كبير ونظرة شمولية تمسح كل المجالات السياسية، العسكرية، الاقتصادية والاجتماعية لتقديم على الأقل مرحلة، لأن المسح الشامل بحاجة إلى الكثير لنصل إليه.