الذي يقرره علم اجتماع الطوائف، أن من أبرز دوافع إشتعال الصراعات الطائفية، هو انعدام الوعي المذهبي وجهل كل طائفة بالمقولات العَقَدية للطائفة الأخرى، وهذا السبب هو الذي يجعل وجهة النظر إزاء الطائفة المقابلة تتأسسُ على بناءٍ مقارناتي غير حيادي واستعدائي، مما يؤدي إلى نقضها جملةً وتفصيلا.. وتتحول بسبب ذلك الرؤيةُ للمذهب المقابل إلى عداءٍ شخصي ومقتٍ جَمْعي متنامي وراثيا، فمتى غاب العلمُ استبدّ التطرف. هل كان يمكن أن يحدثَ الذي حدث في غرداية لو كانت العقول محصّنة بالوعي المذهبي، منفتحة على تنويعات الظاهرة المذهبية والطائفية؟ أنا أجزم بحكم انتمائي للمنطقة جغرافياً، وانتسابي جُدُودياً للعرب الشعانبة، إن هذا الشباب المشتعل لا يعرف عن الإباضية شيئا، وتكفير البعض لهم هو طبيعيٌّ بحكم أن "من جهل شيئا عاداه" وهنا لابد أن نطرح سؤالا جوهرياً: ماذا قدمت المنظومة التربوية ك«جدار صدّ" في موضوع التعدد المذهبي؟ سيقولون إننا في مجتمع موحّد.. وسينصبون لنا المشانقَ لأننا نلامسُ حقلا محفوفاً بالمحاذير. أيها السادة، نحن في منطقة غرداية نعيشُ تعايشَ مذهبين مختلفين ينتميان لنفس الديانة نعم، ولكنهما مختلفان على صعيدٍ ما، والواجبُ العلمي يستدعي بالضرورة أن يقف أصحابُ كل مذهبٍ عند الملامحِ الفكرية والعَقَدية للمذهب المقابل، هذا هو الرهانُ الذي كان ينبغي أن نكسبه حتى لا تحصل هذه الكارثة، التلميذُ في المتوسط والثانوي والطالبُ في الجامعة إن سألته عن الإباضيين سيقول: لا أعرف عنهم شيئاً، أو إنهم يصلون خمس ركعات، وإنّ لديهم مساجد خاصة بهم، وأننا لا نتزوج منهم ولا يتزوجون منا.. سيعدّد لك الفروقات الصورية التي لا تلامسُ الجوهر في شيء، والتي يمكن أن تكون مبالغاً فيها بحكم الإعتماد على التدليل الشعبي لا البراهين الفكرية المستوحاة من المراجع العلمية الرصينة.. هل هذه هي الإباضية؟ لو كانت الفئة الشابة محصّنة علمياً ومفاهيمياً، ومتشربة بالحد الأدنى للمقولات المنهجية للمذهب المقابل، لما استطاعت لوبيّات التخدير والدعارة أن تفعل شيئا في هذا السياق الإجتماعي الحساس، لماذا نحجّم دائما من قيمة المعرفة وخطورة تأثيرها في امتصاص نتائج الفكر السلبي؟ لماذا نلجأ لكل وسائل الردع المؤقتة والآنية حين تستعر نارٌ ما فنخمدَ اللهيبَ ونغضّ الطرف عن (تحت الرماد)؟ لا يصل إلى (تحت الرماد) أيها السادة سوى الوعي، ولا يمكن إستثناء دور الخطاب النقدي الإجتماعي في تسوير أية مشكلة. ومن مُبكياتِ الحالة الغرداوية، أن الجامعة التي هي مصدر التنوير لم تستطع فعل شيء إزاء هذه الهزة التي أربكت الدولة والمجتمع معاً.. لقد تحاورتُ مع كثيرٍ من الجامعيين هناك، فوجدتهم ويا للأسف قد انجرفوا للموجة المذهبية.. والتأجيج الذي حصل، إنخرط فيه كثير أو قليل من الطلبة، بسبب نكوص المعرفة العلمية الواعية للظاهرة. لنكن صادقين: الجامعة اليوم في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر، والمُخرجَات الجامعية اليوم لا علاقة لها إجمالا بمتغيرات الجماعة، اجتماعيا ولغويا وفكريا واقتصاديا وسياسيا، وهذا ما فاقَمَ الأزمةَ ليس في غرداية فحسب بل في سائر المناطق التي تتعرض لغليانٍ ما. الجامعةُ التي لا تجيب عن أسئلة المجتمع الحياتية ومشكلاته العابرة لحدود الأسرة، عليها بمراجعة منظومتها المنهجية والموضوعية والتأطيرية، في جامعات الجنوب العزيز، كان ينبغي أن تتأسس مراكز دراسات متخصصة في موضوعات الهوية والمواطنة والتنمية، لأن هذا الثالوث هو الذي تتوهج به الحياة في هذه المنطقة المخصوصة، المحوجة للتكثيف الإنمائي على كل المستويات حتى تتحول من مجرد "مساحة جغرافية تمثل باقي الوطن" إلى حواضر فكرية واستثمارية مميزة، مالم تتجه يدُ الدولة الجزائرية إلى هذا المنحى سوف لن نحصل على حلولٍ جذرية لمشكلاتٍ ظاهرُها طائفي وباطنها فيه من الإجتماعي والإقتصادي الكثير. المتأمل للخطاب الفايسبوكي، الذي تمّ ضخُّهُ فور اندلاع الأحداث في غرداية، يرى أن معظم شباب المنطقة من الميزابيين وغير الميزابيين، متحفّز لدرجة تثير القلق، لقد وقفتُ على واقعٍ خطيرٍ يستدعي النظر، هو أن الخواء الفكري مستفحل بشكل عام بدليل أن مفردات هذا الخطاب ليس فيها من عناصر الحِجاج الفكري شيء، هي في أغلبها سباب وشتائم وإهانات وتسخيف.. إن تدنّي الكفاءة الأكاديمية والرسمية في مواجهة التطرف المذهبي هو السبب الرئيس في انزواء العقل وإحلال شيطان العصبية بدله، وأقدّمُ هنا الكفاءة الأكاديمية على الكفاءة الرسمية، لأن "جدار الصدّ" الذي نطمح إليه لمواجهة كل ما يتعرض له البناء المجتمعي من أخطار وعلى مختلف الصُّعُد، لا يمكن أن يبنيه سوى العلم المستنير والفهم الصحيح والمعرفة المتمكّنة الرصينة، فحين نملأُ الأذهان بخطاب يحترم العقل ويدعو للإقتراب من الآخر وتفهّم مفرداته الفكرية والعَقَدية.. ويتيح خلق مساحات التعايش والتحاور دون الإضرار بأي طرف، حينها لن يكون للأيادي الخفية التي تريد العبث بمقوّمات ومقدّرات الأمة أي دور مهم، وإن حدث مثل هذا الدور لابد أن تتقدم الكفاءة الرسمية بما تمثله من سلطة رادعة للقيام بواجبها الوطني والدستوري في حماية حياض الوطن. وأنا أتابع هذا الخطاب الذي يمثّل بشكلٍ ما وجهة نظر شريحة معتبرة من الشباب، لفتَ انتباهي أن هنالك قاسماً مشتركاً بين الطرفين المتشاحنين، وهو تباهي كل طرف بمنجزاته التاريخية ودوره في الحرب التحريرية، ليثبت كلُّ فصيل إنتماءه الوطني، وتعلّقه بالأرض وهذا مؤشر إجتماعي مهم وإيجابي يتوجب على أهل الدرس والتحليل أن يقفوا عنده مطوّلا، لتلمّس مناطق الجذب الفكري لدى كلتا الطائفتين، ومحاولة إيجاد مساحات فكرية مشتركة تساهم في وصل الأطراف المتشنجة بعضها ببعض، لأنه في الأخير.. أقول هذا وأنا ابنةُ المنطقة - ليس هنالك شقاقٌ حاد بمفهومه الممتد والعميق بين العرب وإخواننا الفضلاء بني ميزاب، فالتجارة وأعمال الصنائع - بخاصة - خلقت عرى وثيقةً بين الجماعتين يصعب لحدٍّ كبير ضربها والنيل منها، ومن أدلّة ذلك، أن معظم أصحاب الخطاب العقلاني الداعي للتهدئة والمستهجن لهذه الفتنة هم من الفئة التاجرة والمستثمرة، التي ساهمت مصالحُها الإقتصاديةُ في تنشئة نضجٍ إجتماعي كبير عند الطرفين هو بمثابة "جدار صدّ" لا يسمح لشيطان الفتنة أن يستعلن.. والآن لنتساءل ما الحل؟ لن يكون الحل في خُطبٍ عصماءَ حول المواطنة التي يتهددها في الجنوب خطرٌ آخر، سنتكلم عنه في مقال تالٍ، لن يكون الحل في تلوين المشكلة باللون الوردي لنقول أن الأمور بخير ولا داعي للقلق، لابد أن نفهم جميعا حكومةً وشعباً، أن المشكلة كبيرة وأن الحل ليس مستحيلا. وبالتأكيد، فإن أولى خطوات الحل، هو فتح الباب على مصراعيه أمام صناعة خطاب علمي رصين يعمل على تشريح الظاهرة المذهبية وفهمِ تنويعاتها، وتبيينِ تفاصيل الإلتقاء والإختلاف ومناطق التقاسم المشترك، حتى يفهم الجميع أن وجود مذهب رفقة مذهب آخر، وتجاور عرقٍ مع عرقٍ آخر، وتعايش طائفة مع طائفة أخرى، ليس سوى مظهراً صحياً في الجسد المجتمعي بل إنه يمثل أحدَ مصادرِ القوة لهذا المجتمع لو أُحسن فهمه والتعامل معه. ختاماً: الوطنُ غالٍ لا يعرف قيمتَه ولا يدرك معناه إلا من سُلِبَه، فلنحافظ عليه بعقلٍ وتنوير لا بشعاراتٍ صوتية فارغة. الجنوبُ الجزائري .. مسألةٌ أم صفيحٌ ساخن؟ صار الحديثُ عن الجنوب في الجزائر أيقونةً بالنسبةِ للبعضِ (الكثير)؛ هنالك طرفان يركّزان على هذه المسألة -وربما صار الجنوب في المستقبل مسألةً إذا لم نتدارك الوضع ونعمل على إنتاج الحلول لمشكلات أهل الجنوب- طرفان على طرفي نقيض: أولهما شريحةٌ واسعةٌ من أهل الجنوب الوطنيين المخلصين ممن ترى أنها تمنحُ للجزائر نعيمَها والجزائرُ تحرمها هذا النعيم، والطرفُ الثاني مغرضٌ مشكوكٌ في انتمائه وولائه للوطن يريدُ أن تمتدّ يدُ الأجنبي للجزائر من بوابة الجنوب .!! هجمةُ (الربيع العربي) الشرسة والتي زلزلت كل الدول العربية لم تستطع رغم الآلة الرهيبة التي كانت تحركها أن تقترب من حياض الجزائر لماذا؟ لأننا بكل بساطة ذقنا ويلات الدم والنار، وجرّبنا كيف يمكن للوطن أن ينفلت من بيننا دون أن نشعر، والآن نشعر بكثير من الارتياح لأن تلك العاصفة الجحيمية الهوجاء لم تمر فوق رؤوسنا ولله الحمد ولكن... لا ينبغي أن نسترسل تجاه هذا المدّ التفاؤلي وندسّ أعيننا في التراب ونقول إن الأمور بخير وكل شيء تمام!!! ليست الأمور بخير أيها السادة: الجنوبُ صار صفيحا ساخناً لا نريده أن يتحوّل إلى مسألة. الأحداث الأخيرة في غرداية وإن حاولت السلطة أن تقنعنا أنها كانت ناراً وصارت رماداً، وصوّر لنا الإعلامُ لقطات العناق وتبادل الأحضان بشكلٍ يوحي أن الأزمة انتهت، إلا أن تحت الرماد جمرٌ مستعر ينبغي الإسراع بضخّ الثلج إليه. السلطة في البلاد ممثلةً في رئيس الحكومة تبدي حسن نيتها بطريقة (الرجل المبروك)!! نحن لا نشكُّ في إخلاص جانب السلطة تجاه المشكلة، لكن هذا لا يكفي لحلّ مشكلاتٍ تتعلقُ بالهوية. حين يشعر جزءٌ من الشعب بأنه مغبون مهضوم الحقوق لا بد أن ندرك أن هذه هي الخطوة الأولى في طريق فقدان الثقة في الوطن، وتحوّل أهم خصيصة في ميزان الهوية إلى عنصر قلِق يمكن أن يختلّ الميزانُ كلُّه بسببه!!! لم يكن أحد يتوقع أنه سيرى السودانَ قسمين، ولم يكن أحدٌ منا يتوقع أن يسمع جزائرياً يدعو للتدخل الأجنبي بحجة الاضطهاد الطائفي!!! لا يمكنني أن أتوقع أن تصبح همومُ أهلِ الجنوب "مسألةً" ينظر فيها مجلس الأمن!! الخطرُ يُحدق بهذا الوطن العزيز ولابد من تدارك الأمر عاجلاً غير آجل، الدولة الجزائرية التي نرغبُ جميعا في أن تظلّ صامدةً مستقرة لابد أن تعي حجم المشكل الجنوبي حتى لا يتحول الجنوب إلى "مسألة"!! سأتكلم عن إنتاج الحلول لأنني أؤمن أن الحلول لا تُصطنع ظرفياً، الحلول ليست قراراتٍ ضمن خُطبٍ جماهيرية، وقد رأينا كيف استخفّت بعضُ وسائل الإعلام بقراراتِ رئيس الحكومة التي رفض مديرُ شركةٍ بترولية تنفيذها!!! لسنا بحاجة لمزيدِ من صور امتهان "السلطة" والعبث ب«سلطان الدولة" لأن هذا أيضا ليس لصالح ميزان الهوية الذي تحدثنا عنه. إنتاجُ الحلول أقصدُ به تكليف الخبرات الاقتصادية الوطنية الكفؤة بإعداد تطبيقات اقتصادية فاعلة لصالح المنظومة الشبابية في الجنوب، وعلى رأسها الإعمار الاستثماري وذلك بضخّ استثماراتٍ هائلة في كل الجنوب، الدولة مجبرةٌ اليوم على إنتاج الحلول الكفيلة بتحويل الجنوب الكبير إلى منطقة جذب اقتصادي واجتماعي مهم، وهذا لن يكون مكسباً للجنوب وحدهُ، بل سيكونُ تحويلاً نوعياً للبوصلة الإنمائية باتجاه الداخل، فيخف الضغط على الشمال الذي تحوّل في الآونة الأخيرة إلى أشبه بمحتشد!! واسألوا أهلنا في الشمال كيف صاروا يفرّون منه إلى حيث الهدوء والدّعة والأمن، لأن المواطن في النهاية هو إنسانٌ يبحث عن السعادة وراحة البال!! ليس من مصلحة الوطن أن يشعر أهل الجنوب أنهم أهلُ النعمة ولكنهم يُحرمونها، وأن البترول الذي يصنع رفاهيةَ الخزينة وقوة الاقتصاد واستقرار البلاد يخرج من تحت أقدامهم ولكنهم يمشون على كراسي متحركة!! ليس من مصلحة الوطن أن يظل الجنوب صحاري خالية، وطرقاً مهترئة، وبنايات لا تلائم البيئة الصحراوية، ومرافق لا تغني من أبسط حاجات الراحة والترفيه.. الاستثمار الاستثمار الاستثمار... افتحوا باب الاستثمار في الجنوب ليتحول قيظُه إلى خضرةٍ وماء، وتتحول بطالتُه إلى مصانعَ ومؤسسات، ويشعر شبابُه أنه جزءٌ مكين من الدولة، وحينها سيحافظُ عليها بكل طاقته لأنها صارت تمثلُ له روحَه ودمَه وعرضَه. «الوطن ليس فندقاً نغادره متى ساءت الخدمةُ فيه"!! الوطن هويتُنا، وفلذاتُ أكبادنا، وسكنُنا الذي ليس لنا غيره، لا يمكننا أن نفعل بوطننا سوى أن نحبَّه أكثر ونتمسك به أكثر، ولكننا في الوقت نفسه لا نحب أن تُستفزّ وطنيةُ شبابنا بالافتئات على حقوقه، وتجاهل واقعه لأن ذلك وأعداءُ الوطن هو من يشعل مواقد الفتنة، فيستحيل البلدُ صفيحاً ساخناً يُصَبُّ فوقه زيتُ العداء ليتحول الوطنُ إلى "مسألة" فيها نظر. *جامعة ورڤلة بقلم: الدكتورة