العقل العوّاء، هو ضد العقل الذي فقد أصالة الصوت وافتقد نور الصوت، واكتشف نفسه في ظلام دامس، لا يعرف يمينه من يساره، أضاع بوصلته ولم يجد من مقاومة الروع الذي استولى عليه سوى العواء الذي بدأ همسا، فأنينا فصراخا، لكن كل هذا الهمس والأنين القريب إلى الاستجداء وطلب الغيث والصراخ المرعوب، لم يجد نفعا، فحدثت عملية المسخ وذلك بالتحول إلى مرحلة العواء المتصاعد والمتضخم، بحيث توهم العقل أنه بالعواء والاستمرار فيه بشراسة يتمكن من استرجاع ذاته، وبالتالي استرجاع الطريق الذي ابتلعه منه الظلام الحالك والدامس·· ثم شيئا فشيئا أضاع ذاكرته ونسي بإضاعتها نوره السابق، ولم يعد حينها يتذكر نوره الخاص، نوره كطريق وذاكرة، وراح يعوضه بهذا النوع المسعور من العواء، لقد أضاع العقل عقله فإستحال عقلا عواء·· وباستحالته إلى عقل عوّاء ظن في ذلك مخرجه وانتصاره على المأزق الذي وجد نفسه فيه، صار يعوي ولا يدري سوى العواء·· ذلك الصوت المقزز الذي لا يريد أن يسمع سوى نفسه، ومن خلاله راح هذا العقل ينفي ذاته كعقل ويشن حربا دون هوادة عل شقه الرافض أن يتحول إلى مسخ، ويسعى في الوقت ذاته إلى محاولة التغلب على بؤسه من خلال ميثولوجياه الخاصة به كطريقة في صون ذاته وطمأنة نفسه على أنه لازال عقلا ذا نفوذ وقوة وسطوة··· وحسب مارسيل ديتيان في كتابه ''اختلاق الميثولوجيا''، كان أفلاطون كثيرا ما يستعمل كلمة أسطورة ''للدلالة على سلوك عادي تافه، أو حجة غبية، أو عبثية الخصم''، ويرى صاحب كتاب ''الجمهورية'' حسب مارسيل ديتيان ''إذا ما حدث أن دمر الكلام ذاته بفعل تناقضاته الداخلية وأن هوى في العبث أو اللامنطق، فإنه يصنف ضمن نوع الأسطورة، أي يعتبر صورة متهافتة لفكرة جاهزة''، بحيث ''تصبح البلاغة الجديدة نوعا من آلة إقناع للجماهير عبر سرد الحكايات (بواسطة الميثولوجيا) وليس عبر اللجوء إلى التلقين''، أي ''أن السفسطائيين الذين كانوا يستعرضون أنفسهم في الحواضر أمام حشود من المستمعين، سيصبحون مثل نساء هرمات يروين للأطفال حكايات تسليهم''. ويخاطب أفلاطون هؤلاء السفسطائيين بقوله ''إنكم تلقون في أسماعهم كلاما ساحرا يقدم لهم روايات محكية، أشباح كلمات تثير لديهم توهم أن ما يسمعونه حقيقي وأن من يتكلم يعرف أكثر من كل الآخرين''. وهكذا ظن العقل العوّاء أنه باختراعه لميثولوجياه الخاصة من خلال الإنتاج الإسهالي والمسعور والأعمى للكلام عبر الميديا، أنه سيتمكن باستبدال الواقع المادي وواقعه الخاص، الاجتماعي والتاريخي والثقافي والسياسي بنقيضه، أي بواقع متخيل وذلك بسعيه إلى كتم التخيل حتى تحدث حال التماهي وتبدو وكأنها الحقيقة الوحيدة والثابتة والمطلقة كاليقين المطلق··· وفي مقال منشور بالأهرام تحت عنوان ''نحن أيضا مسؤولون''، ينضم الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي إلى مباراة العقل العوّاء بحيث يقول في مستهل مقالته الثانية تعقيبا على المباراة التي جمعت بين مصر والجزائر، بأنه يريد أن يستكمل ما بدأه في مقالته السابقة ''عما حدث بيننا وبين الجزائريين في مباراة الكرة من تجاوزات مؤسفة، طالبت بأن نكون هادئين ونحن نفكر فيها لنراها على حقيقتها، وأن نكون صرحاء في التعبير عما نراه لتظهر الحقيقة ويعرف كل طرف واجبه نحوها''. ويعتقد صاحب ''مرثية العمر الجميل''، أن ''التجاوزات'' الجزائرية طبعا، ''لم تكن انفعالا طارئا نرد عليه بانفعال'' كما لم ''تكن عبارة نابية نقابلها بمثلها''، وإنما ''كانت هذه التجاوزات تعبيرا عن ضغينة مكتومة''. ينخرط الشاعر العربي، وهو أحد الوجوه العربية اللامعة للحداثة الشعرية، ودون سابق إنذار، وهو البعيد عن عالم الكرة، كما يقول في لعبة المثقفين البغاة، ويتخلى دون تردد عن العقلانية التي رفع رايتها منذ عقود لينضم إلى المعركة المقدسة؛ معركة العقل العوّاء·· يخرج المباراة من إطارها الطبيعي، ويعتبر هذه التجاوزات من قبل ''الجزائريين'' وليس من بعض الأنصار، إذا ما افترضنا أن ما وقع من استفزازات في الخرطوم ضد ''مناصرين من طراز اللوكس''، أنها وقعت بالفعل··· نقول ذلك، لأن الرواية المصرية مستمدة من شهادات غير مدعمة بأية حجة·· فلا صورة ولا تقرير الأمن السوداني يشير أو يؤكد ذلك··! وهذا هو الشيء المروع في الرواية المصرية·· فلقد تحولت الشهادة غير المدعمة إلى واقعة وتحولت الواقعة إلى حقيقة مصرية وتحولت الحقيقة المصرية إلى يقين·· وتحول هذا اليقين إلى هوس، وبالتالي، تحول هذا الهوس إلى حرب بين بلدين وشعبين، لم تقع على أرضية الزمن الحقيقي وإنما وقعت على أرض الواقع المتخيل للعقل العواء! لقد كانت هذه ''التجاوزات الجزائرية'' بحسب أحمد عبد المعطي حجازي ''تعبيرا عن ضغينة'' وليست ''ضغينة'' وحسب، بل ''ضغينة مكتومة'' والضغينة هي المستوى الأعلى للحقد·· هكذا إذن تكشف هذه التجاوزات ضد مناصرين مصريين عن ضغينة كان يداريها الجزائريون، لكنها ها هي تكشف للعيان بفضل مباراة في كرة القدم ويربط شاعر الحداثة العربية هذه ''الضغينة المكتومة'' ''باستعداد الجزائريين المسبق''، وذلك من خلال ''إشاراتهم وتلميحاتهم السياسية'' المتمثلة في إقبال شبان جزائريين متعصبين على ''وضع نجمة داود مكان النسر في العلم المصري''، وكل هذا يعني شيئا واحدا في نظر أحمد عبد المعطي حجازي، أن ثمة ''موقفا معاديا للسياسة المصرية''، لم يقل لنا حجازي، إن كان هذا الموقف موقفا رسميا أو شعبيا·· لكنه قال لنا بأنه يعتقد ''أن هذا الموقف يتجاوز جمهور الكرة إلى جمهور أوسع، يتعدى حدود الجزائر ليجد من يتبناه في بلاد عربية مختلفة''، وهنا يكشف أحمد عبد المعطي حجازي عن بيت القصيد والذي يتمثل في محنة هذا العقل المصري المأزوم·· هذا العقل الذي وصفته مجازا بالعقل العوّاء·· إنه عقل يحاول القفز فوق حائط حدوده وأزمته وبؤسه العميقين من خلال اختلاق فعلين خياليين، فعل التخوين لمن يرفضون الانخراط في لعبته من المثقفين من داخل مصر، والتخوين في هذه الحال يتحول في ظل كهكذا حالة سلاحا مريبا وترويعيا ضد العقل النقدي، وضد كل محاولة تفكير مستقل يرفض الانسياق في تيار الجموع اللاعقلاني، ويحافظ على ملامح صوته أمام طغيان الصوت الأعمى والهادر للأوليغارشيات المستبدة والمهيمنة على الفضاءات العمومية التي لا تريد صوتا غير صوتها ولا أصداء غير صدى صوتها·· وفعل المؤامرة المنسوجة خيوطها من الخارج، خارج السور المصري ''العتيد''، وهذه المؤامرة حسب العقل العوّاء، لا يمكنها أن تتحقق إلا من خلال عملاء الداخل الذين يجب ترويعهم وملاحقتهم بتهمة الخيانة، وتقديمهم إلى الجموع، كخونة، وشياطين يجب رجمهم، وذلك من أجل تطهير الأمة من كل حملة الرجس وتخليصها من هؤلاء ''الأعداء''! ولماذا يا ترى هذا الحلف المقدس بين هؤلاء العرب ''برغم اختلاف اتجاهاتهم وتقاطع طرقهم'' ضد مصر؟! يجيب أحمد عبد المعطي على سؤاله قائلا بأن هؤلاء العرب يريدون ''إيقاف مصر ووضعها داخل حدود لا تتعداها''، يتحول هنا، شاعر الحداثة، وهو ينسج إيديولوجيا التفوق والعظمة المصرية ذات البعد والتوجه الواحد والأحادي، إلى كاتب معاد لروح الحداثة باعتبارها تعبيرا وتجليا للعقلانية في أعلى درجاتها·· كيف نكون حداثيين إذا ما تماهينا مع تخيلاتنا الشوفينية عن قوة الدولة التي ننتمي إليها، ونتعامى عن النظر المتفحص لما قد يصيبها بفعل الأزمات والتطورات والتحولات العميقة في العالم من أدواء وتعثرات وتراجعات؟! كيف نكون حداثيين إذا ما رضينا بالإستسلام أمام أول لحظة تحد من داخل أوطاننا وخارجها لتلك الإغراءات الشيطانية التي تملؤنا عزة جوفاء، وعنادا متبجحا وتصم آذاننا بحيث نصبح غير قادرين على الإصغاء الحقيقي للأصوات المغايرة، وللرنات الصاعدة وللموسيقى القادمة من مناطق لم نكن نراها في سابق أيامنا وسالف عهودنا·· وهي موسيقى بقدر ما تخلخل ذوقنا السائد المتكلس ومشاعرنا شبه الميتة بفعل التقادم، فإنها قادرة لو عرفنا كيف نحافظ على سلامة ما تبقى لنا من حواس، أن نحولها إلى هدير داخلي راقراق يساعدنا على إعادة خلق رنيننا الذي لابد وأن يشع في داخلنا من خلال قبول الرنين الآخر··· والسؤال الذي نطرحه على هذا العقل العوّاء، هل تراجع مصر حسني مبارك يعود فعلا إلى هؤلاء ''المتآمرين العرب'' الذين يسعون إلى سجن مصر ''داخل حدود لا تتعداها''؟!