* يَضطرني الدكتور "الأمين" الزاوي، وقد قرأت مناطحتَه جبلَ اللغة العربية الشامخ وحارسَها وسادنَها الأمين أبا الطيب المتنبي، أن أتصرف مؤقتاً في اسمه الشخصي انتصاراً للغة المتنبي الصحيحة الفصيحة، فأثبتَه مُعرفاً ب "ال" القمرية، رغم إصراره على تنكير اسمه انتقاماً من لغة المتنبي التي لا يحبها، والناس أحرار فيما يحبون وما يكرهون! ويدفعني في المقام الثاني إلى التصرف في عنوان البرنامج الأدبي الخالد: " قولٌ على قول" الذي كان يعده ويقدمه على إذاعة "البي بي سي" المرحوم حسن سعيد الكرمي، فأستبدل باللام سيناً لأفتح من خلال هذا العنوان قوساً على قوس الدكتور " الأمين " التي رمى بها الشاعر العظيم أبا الطيب المتنبي فارتدتْ إليه لتصيبه في مقتل ! * وقبل أن أفتح أقواس الدكتور "الأمين" التي لا تُفتحُ لغتُها لقارئ بسيط مثلي إلا بمفك براغٍ، أود أن أنبه إلى أنني لا أنصب نفسي هنا أبداً محامياً عن رجل عظيم لا يُعْوزه دفاع ولا يحتاج إلى محام، فهو بالنسبة للغة العربية إحدى رئتيها اللتين تتنفس منهما، وهو بالنسبة للإنسان العربي القح إحدى شفتيه اللتين يتكلم بهما، وبالتالي فأنا أصغر من الدفاع عن المتنبي، وهو أكبر من قدح " الأمين " فيه ! * وعندما تستعصي لغة أي منا على أن لا تنفتح إلا بمفك براغي فلأننا لم نقرأ المتنبي جيداً باعتراف "الأمين" نفسه، وعندما تصبح عُجمة لسان بعضنا حسب الدكتور مرجعاً ينبغي أن يهتدي به العربي ولد خليفة في جزأرة اللغة العربية فاقرأ على الدنيا السلام وأخْبِرْها أننا مازلنا بعد مرور عشرين سنة عن سقوط المعسكر الشيوعي لم نتخلص بعدُ من أفكار سلامة موسى وأحمد لطفي السيد وغالي شكري اليسارية، التي تتخذ موقفاً عدائياً من أبي الطيب بحجة أنه شاعر برجوازي مضاد للطبقة الكادحة التي كان ينبغي حسَب رأيهم أن يتخندق إلى جانبها، وأنه كان عليه أن يَنظِمَ شعره بلغة السوقة في عصره، وبِِرطانة مغنيي " علب الليل " في عصرنا حتى ينال رضاهم ! * ويذهب هؤلاء المتطفلون على ماركس أبعدَ من هذا عندما يستكثرون على أبي الطيب أن ينام ملء جفونه عن شواردها، لأنهم يشفقون على طبقة البروليتاريا أن تقضي ليلها ساهرة تختصم جراء بديع شعره ومعجز لغته، بينما يتوجب عليها حسبهم أن تسهر على موائد الخمر، وتنام على زجاجات النبيذ، وتصحو على أنغام " الويسكي ڤاوري والبيرة عربية " حتى تنسى خيباتِها وأحزانَها ! * ولذلك لم أستغرب أن لا يجد " الأمين " ما يستشهد به عما أسماه بالحيرة في الوجود سوى ما تجرأ به أبو نواس على الله في قوله الذي وافق هوًى في نفس الدكتور : * * ياناظراً في الدين، ما الأمرُ؟ * لا قدَرٌ صح ولا جبرُ * ما صح عندي من جميع الذي * يُذكَرُ إلا الموتُ والقبرُ * * بينما يُعْرِض وينأى بجانبه عن الكثير من روائع صور الفكر الإنساني في شعر أبي الطيب الخالد، ويَعْتِبُ عليه عدمَ اهتمامه بالفكر والوجود وانصرافه عنهما إلى المديح والهجاء: وكم من عاتب قولا صحيحاً، وآفتُه من الفهم السقيم.. ثم يتهمه بعد ذلك في دينه ودنياه وديوانه الذي يخلو مما أسماه بتعبير فضفاض غير محدد: "الفكر الوجودي"، رغم أن قصائد المتنبي الثلاثمائة الموثوقة التي وصلتنا وفي مختلِف الأغراض لا تخلو أبداً من فلسفة إنسانية عميقة، ولمسة فكرية راقية تعجز الفهوم القاصرة السقيمة أن تحيط بها، وفي مقدمة هذه القصائد توصيفه البديع لطموحه الذي يجسد أرقى معاني الطموح الإنساني في أسمى صورة، وأجمل لغة، وأبلغ تعبير : * * يَقُولونَ لي ما أنتَ في كلّ بَلدَةٍ * وما تَبتَغي؟ ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمى ! * كذا أنَا يا دُنْيا إذا شِئْتِ فاذْهَبي * ويا نَفسُ زيدي في كرائهِها قُدْمَا * فلا عَبَرَتْ بي ساعَةٌ لا تُعِزّني * ولا صَحِبَتْني مُهجَةٌ تقبلُ الظُّلْمَا * وإنّي لَمِنْ قَوْمٍ كأنّ نُفُوسَهُمْ * بها أنَفٌ أن تسكُنَ اللّحمَ والعَظمَا * * ولعل إعراض المتنبي عن شرب الخمر التي لم يذقها طوال حياته كما تُجمِع مختلف الدراسات التاريخية "اعتباراً منه أن شُربها من معايب المروءة ومَناقِص الرجولة، ويتناقض مع العقل الذي يتحدث عنه الأمين" هو الذي ألب عليه جماعة سلامة موسى التي لا تجف كؤوسها ولا تكاد تصحو من شرب حتى تدخل في شُربِ ! * * واقرؤوا إن شئتم طرَب المتنبي للسيف البتار لا للخمر الصافية عندما يستحلفُه أحبتُه بالشرب معهم، فيقول : * * لأ َحِبتي أن يملأوا .. بالصافيات الأكؤبا * وعليهمُ أن يُقسِمُوا .. وعلي ألا أشرَبا * حتى تكونَ الباتِراتُ .. المُسمِعاتُ فأطْرَبَا * * ثم آمُل أن يذكرني أحدكم ببيتٍ رائع قاله في هذا المعنى رداً عمن دعاه إلى أن يقاسمه شُرب الخمر، حيث اعتذر لداعيه بقوله: إنه لا يشرب الخمر التي تَشرَبُ كرمتُها من الماء، بل يشرب الأصل والمنبع أي الماء، في بيت مشهور نسيتُ صدره، وما أنسانيه إلا مفك البراغي أن أذكره : * * ... شَربْنَا الذي مِن مِثْلِه شَربَ الكَرْمُ ! * * وأعيدوا إن شئتم قراءة البيت الشعري الذي وضعه " الأمين " في رأس القوس التي رمى بها أبا الطيب، وقد كتبه بشكل خاطئ وزناً ومبنى، فهو يقول " بعد التصحيح " : * * أبا المِسْكِ هل في الكأس فضلٌ أنالُهُ * فإني أغني منذ حينٍ وتشرب ُ * * فالمتنبي يغني بينما كافور يشرب، وهو هنا في مقام تعريض بكافور وبنسبه الغريب عن المجتمع العربي، لا في مقام مدح كما فهِمَ "الأمين"، حيث أن صفة البخل لا يمكن أن تجتمع مع نفس عربية أبية أبدا،، وهو في موضع آخر يُسجل أقصى حالات الإحباط في تساؤل فكري لوضع كافور الشاذ في مصر إذ يقول : * ساداتُ كل أناسٍ من نفوسهمُ * وسادة المسلمينَ الأعبُدُ القزم ُ * * وقد تعمد الشاعر العظيم أن يقول: سادة المسلمين ولم يقل سادة العرب، وبذلك حدد المشكلة في المسلمين وما لحِق ويلحَقُ بهم عبر العصور، وهو وصف رائع لهوان المسلمين في ذلك التاريخ الذي يُعِيدُ اليوم نفسه معنا في مسألة الهوان، حيث يؤكد أن الجهل بالدين هو السبب الرئيسي في وضع المسلمين المنحط، وذلك في قوله وهو يصِفُ حصْرَ المسلمينَ غاية دينهم وسمو رسالته النبيلة في إطلاق لحاهم وقص شواربهم : * * * * أغاية الدين أن تُحفوا شواربكُمْ ؟ * يا أمة ضحِكَتْ من جهلها الأممُ ! * * * وكالذئب الذي استعمل ذيله شاهداً على صدق كلامه بتعبير الأستاذ الهادي الحسني يستعين "الأمين" في مناطحته الجبل باسمين اثنين: الأول البروفيسور "الرفيق" الراحل جمال الدين بن الشيخ، أحد المتعالين على اللغة العربية وتراثها، وهو ممن ينسبون أنفسهم للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير الذي كان يتقن العربية ويجيدها أحسن من جمال بن الشيخ نفسه، حتى أنه ألف فيها كتابا بعنوان: قواعد اللغة العربية الفصحى.. ومن غير المؤكد أن يبلغ جمال بن الشيخ بثقافته العربية المحدودة لغوياً مبلغ انتقاد المتنبي أو الإعجاب ببشار إلا بمقدار تأثره ببلاشير الذي مات ولم يشفِ نهمه من ابن برد.. أما الثاني فهو الشاعر اللبناني النصراني سعيد عقل، الأب الروحي لحزب حراس الأرز المؤيد لقضاء إسرائيل على الوجود الفلسطيني في لبنان، وكان له في هذا موقف مشهود عبر تأييده للهجوم الصهيوني على لبنان عام 1982م، وكلا الشاهدين له في ميدانه مقام معلوم إلا أن يُستشهَد بهما عن المتنبي ! * وإذا كان الدكتور "الأمين" يعتبر هجاء المتنبي لكافور بناء على انسياقه وراء كلام أحد شاهديه مؤسساً على فكر عنصري ضد الإنسان الأسوَد فهو مخطئ في انسياقه هذا، ذلك أن ثورة أبي الطيب ضد كافور لم تكُ إلا كَمَثل ثورةِ أي شاعر عربي اليوم ضد باراك أوباما مثلاً، لا لسواد بشرته ولكن لاستمراره في اغتصاب أرض ليست له.. وإذا كان الدكتور "الأمين" لا يجد أي فكر إنساني في مثل هذه الروائع التي يحفل بها شعر أبي الطيب فهو إما أنه لم يقرأ المتنبي أصلاً، أو أنه ما يزال تحت تأثير سلامة موسى، وفي كلتا الحالتين فأنا لست حكيم عيون، وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره؟ ! * إن منطق سلامة موسى وأتباعه يريد من المتنبي أن يُعجمَ لسانه، ويكسر سيفه، ويستبدل بجواده العربي الأصيل حماراً مدبوراً، وأن يقضي حياته حافياً عارياً يبيت على الطوى ويظله، حتى يصل لمثل الحالة التي يجد فيها الأديب الأريب الأمين الزاوي نفسه في حالة بطالة، ويجد العبد الضعيف نفسه فيها مجرد "حيطيست"، ويجد الشاعر عثمان لوصيف نفسه فيها عاجزاً عن شراء علبة دواء، ويجد فيها الدكتور شريبط أحمد شريبط نفسه يواجه الموتَ يومياً بصدر عارٍ، ويُضطر فيها الشاعر أبو بكر زمال إلى عرض كليتيه للبيع حتى يتمكن من شراء الخبز والحليب لأبنائه ! * أعيدُ قراءة المتنبي كل يوم كما يعيد الصوفي قراءة ورده، وأكتشف في كل مرة أقرؤه فيها صوت مثقف يُطالب بحقه وبمكانه الطبيعي في المقدمة.. إنه صوتي وصوت العشرات من أمثالي، لست في هذه الدنيا أولهم ولا الدكتور "الأمين" آخرهم.. إنه صوت ضمير حي يرى من خلال القدرات الكامنة في نفسه أنه الأحق بالقيادة والريادة.. وإذا كان "الأمين" يَعيبُ على المتنبي ارتماءه في أحضان السلطة مادحاً متملقاً فلأنه كان يرى نفسه أجدر من كافور بمنصبه، تماماً كما لو أن الدكتور "الأمين" دعته هِمتُه يوماً أن يرى نفسه أحق من زنوبيا بعرش تدمر، وأجدر من " ها " بهضبة العناصر، حتى وإن اضطرته الظروف في سبيل ذلك أنْ .. وأنْ .. وأنْ .. وأنْ يحمل معطف " ها " ويمشي على استحياء خلفها؟ ! * فلماذا يَعيبُ " الأمين " على أبي الطيب طموحَه المشروع كمثقف في أن يتبوأ مكانه الطبيعي في الطليعة؟ ولماذا يَقدِحُ فيه أنه " ينام ملء جفونه عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم " ؟ * وإنْ يستكثر "الأمين" على المتنبي أن ينام ويسهر الخلق من حول شعره، فها هو بعد ألف سنة ونصف قرن من وفاته يواصل نومه الهادئ ملء جفونه، بينما يسهر الدكتور "الأمين" وسليمان باخليلي والملايين من قراء الشروق وهم يختصمون جراءَ بديع شعره، وروعة نظمه، ودقة بيانه، وإعجاز لغته ! * وإن يُصدِر "الأمين" حٌكمَه القاسي على جبل شامخ كالمتنبي من خلال بيت شعر واحد قاله في لحظةٍ ما وفي سياق معين، فإن الدكتور يدرك وهو سيد العارفين أن المتنبي سيظل أكبر من أي قدح وأعظم من أي انتقاص، وفضله على اللغة العربية أوسع من أن تستوعبه حروف الأبجدية الثمانية والعشرين، ومكانته في ديوان الشعر العربي أرفع من أن توضع بين أقواس.. ولو لم يقل المتنبي في حياته التي ما يزال يملأ بها الدنيا ويشغل بها الناس سوى قصيدته الشهيرة: لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ، لكفانا بالتعقيب المختصر على الأمين، ولأغنانا بالرد المقتضب عن الدكتور ! * ومع ذلك فأنا أعيذها نظراتٍ من الزاوي صادقة، أن يَحسَب الشحم فيمن شحمه ورم.. واسمحوا لي في الأخير أن أعيد اسم الدكتور أمين إلى سيرته الأولى قبل تصرفي المؤقت فيه بداية المقال، فقد أغلقت القوس وعلي أن أعيد مفك البراغي إلى غِمْده الجلدي المنقوش عليه: * * يا نَاطِحاً جَبَلاً يوماً لِيُوهِنَهُ * أشْفِقْ على الرأس لا تُشْفِقْ على الجبِِل ! *