دائما ثمة شيئا ما يتقافز بين مفاصل جمله .. ثمة كتابة فوق وتحت كتاباته .. هو النوبلي منذ 1998 معروق بانهماكه في القلق الإنساني .. في اللغز الوجودي ..لطالما كانت الإنسانية هاجسه المركزي.. ولطالما مثلت العدالة الاجتماعية والحق في كرامة العيش انشغاله الأكبر.. في يوم ممطر تفتحت بصيرته على مدينة سكنت قلقه منذ وقت ما عاد يذكره، فقرر أن يكتب ''البصيرة'' واختار لها يوم الاقتراع ..يوم لا يشبه الأيام ..لأن الاقتراع فيها ما كان مثل أي إقتراع .. في ذلك اليوم الغريب حدث إقتراع غريب.. في الساعة الرابعة بعد الظهر انطلقت العملية الانتخابية .. كيف ؟ كل الناس وصلوا في ذات اللحظة ..واقترعوا في نفس اللحظة ..وعند فرز الأصوات دهش القائمون على العملية .. ثلاثة أرباع المقترعين رموا في الصناديق أوراق بيضاء ..الشيء الذي أذهل الحكومة وأخافها ،لابد من إجراء عملية أخرى، لكن النتيجة جاءت نفسها والأغلبية الساحقة وهبت صوتها للبياض جوزيه سارماغو ابن المهن المختلفة: صانع أقفال ..ميكانيكي.. صحفي ..ومترجم هوسته لعبة الديمقراطية ومهازل الديمقراطية في البرتغال بلده ومسقط رأسه .. تابع العملية بالكتابة والشغف وعرف أن ''الحل الوحيد هو إعادة الانتخابات في تلك المدينة ..ولكن الموعد الثاني حل في يوم ماطر أيضا '' قال الرئيس ربما يهدأ الجو؟ وظل يهمهم كما لو كان يصلي وهو ينتظر ساعة الفرز والإعلان عن النتائج ''مازلنا في منتصف النهار'' نهض ''ريسولوتو'' هذا العضو الذي أسماه الكاتب ''عضو الباب ''لو سمح لي سيدي سأرى كيف حال الطقس '' في تلك اللحظة التي لا يوجد فيها أحد للتصويت ..خرج طائرا وعاد سعيدا..معلنا الخبر السعيد '' هائل '' إنها تمطر أقل بكثير من ذي قبل ،كما لو كانت لا تمطر وبدأت السماء تصفو.. كل أعضاء اللجنة وممثلو الأحزاب على وشك أن يتعانقوا لكن عمر السرور كان قصيرا .. فالتقطير الرتيب للناخبين لم ينقطع ..وصل ناخب آخر ..جاءت زوجة نائب الباب وأمه وخالته ، جاء الأخ الأكبر لممثل حزب اليمين ..جاءت حماة الرئيس متخلية عن وجاهة العائلة الرئاسية وأخبرت زوج ابنتها المكتئب أن إبنتها ستأتي بعد الظهر.. وهي تفكر في الذهاب إلى السنيما ..قالتها بقسوة ،ثم جاء أبو نائب الرئيس وأمه ،كما جاء آخرون لا ينتمون لتلك العائلات ..كانوا يدخلون بلا مبالاة ويخرجون مثلما دخلوا، ولم يتحرك المكان إلا بمجيء سياسيين من حزب اليمين .. بعدها جاء سياسي من حزب الوسط وفجأة ظهرت كاميرا تلفيزنية خرجت من العدم .. صورت وصورت وعادت مرة أخرى إلى العدم.. قدم مصحفي وأخد يسأل مرة أخرى احد القائمين على العملية الانتخابية : كيف تسير الأمور؟ وكيف هي عملية الانتخابات؟ فأجاب الرئيس: ربما تتحسن فالجو بدا يصفو .. ونحن على يقين من ان عدد الناخبين سيتزايد..- ولكن يظهر أن الامتناع عن التصويت مرتفع هذه المرة .. علق الصحفي .. افضل ان ارى الامور بتفاؤل رد عليه الرئيس . الطقس آخذ في الصحو معناه أن ذلك سينعكس على سير العملية الانتخابية ..يكفي أن يكف المطر لنستعيد ما حاول الطقس سرقته منا .. وكف المطر.. لكن لم يكن هناك ما ينبىء بأن آمال الرئيس ستتحقق ..الوقت يمر وشبح الفشل بدأ يأخذ مكانه.. وكانت الخيبة الكبرى..اجتمعت الحكومة للنظر في نكبة الانتخابات وأعلن رئيس الوزراء عن خطة لإنقاذ الوضع '' فلندع الأفعال السيكولوجية قال للحاضرين:''مناورات التجسس ..أجهزة كشف الكذب وأجهزة متطورة أخرى لتحري أسباب عزوف الناس عن الانتخابات ''ولكن كل هذه الوسائل لم تحل المشكلة. وأخيرا تقرر سحب الحكومة من تلك المدينة الغاضبة إلي مدينة قد تصير عاصمة جديدة للبلاد، وستبقى المدينة الثائرة لتهلك نفسها ..وسيعرف أهلها وقتها فداحة الخسائر الناتجة عن عزوفهم ورفضهم لأداء واجبهم الوطني ، وسيأتي لنا لا محالة سكانها تائبون نادمون يستجدون عفونا .. رواية البصيرة للكاتب البرتغالي سراماغو بدأها بعواء الكلاب وأشهد على أحداثها أعين الكلاب فهي وحدها الأمينة في نظره على إثبات الحقائق .. فالعواء عنده ضرورة وواجب هو الشيوعي الهرمونات كما أسمى نفسه .