يكذب والله من يقول إن الثقافة ليست بخير في الجزائر، ويكذب أيضا من يقول إن الثقافة بخير في الجزائر، وأن المهرجانات والسهرات والمعارض تصنع ثقافة حقيقية إذا لم تتجسد في سلوك يهذب الروح ويوقظ الوعي ويصقل الهمم ويشحذ العزائم وينفض الغبار عن الذاكرة والتاريخ الثقافي الجمعي، بهدف تكريس مناعة حضارية تمكّن من مواجهة الإقتلاع الهوياتي. كنت ومازلت حتى لحظة كتابة هذه السطور، متأثرا بما فعله مثقف انتحاري (كاميكاز) في قرية لا أثر لها في الخريطة الفكرية والتراثية والأخلاقية والجغرافية، رغم كل ما قدمته من عطاءات ثورية ونضالية وفكرية كما جسدته محاضرة الدكتور محمد البشير شنيتي المؤرخ الأنيق والباحث الذي ولد من جديد بين أبناء قريته مخمرة التي أدخلها تاريخا غير مسبوق في يوم الشهيد. نورالدين كبير، سيزيف الزمن الجزائري الجديد والمجدد للرمز الإغريقي الغابر، لا يخجل من رد صخرة الرداءة المتدحرجة وحيدة بجسد عليل وبيد يمنى واحدة يريدها أن تصفق رغم انشغال اليسرى بسيجارة الموت البطيئ التي يستهلكها بإيقاع تدخين كامو المقدس عند الكثير من أدبائنا وعند فرنسواز ساغان صاحبة رائعة "صباح الخير أيها الحزن" ومارغريت دوراس مبدعة "العاشق" ومبدعين آخرين جعلوا من السيجارة مخدرا إبداعيا رغم مخاطره الصحية المعروفة. كبير مرضى الثقافة كبير مرضى الثقافة ومجنون القراءة والبحث والتأصيل، لم يتحالف مع رئيس بلدية الياشير السيد رشيد بن عامر للحصول على قطعة أرض أو سكن أو المشاركة في صراع الأجنحة مع بوتفليقة أو توفيق أو ضد الأول أو الثاني، لا يمكن للرجل أن يفعل ذلك حتى وإن شاء، ومن عرفه قبل أعوام كاتبا لصحف لم تعرف قيمة ما أرسل ولم تطالبه بالإستمرار رغم أهمية مقالاته المجانية يشهد على فرادة دونكيشوت الياشير مثل كاتب هذه السطور، الذي ترأس القسم الثقافي لجريدة المساء قبل أكثر من 23 عاما وهي الجريدة التي تحولت إلى شبه نشرية ستالينية رغم انهيار جدران كل الشموليات الفكرية، مثلها مثل جريدة الشعب رمز تضحيات شهداء لا يشبهون كل الشهداء. نورالدين، الذي أصبح نور الياشير الثقافة أيضا وليس الشواء فقط، صنع موعدا تاريخيا على طريقته الخارقة والخاصة مساء يوم السبت الماضي في غفلة متعمدة من صحافة مجندة لمصير سياسي معلق حتى إشعار جديد، ولم تكن برمجة الموعد عفوية وارتجالية، إذا عرفنا أن فكرة تكريم مثقفي قرية مخمرة قد صادفت يوم الشهيد الذي عرف الدكتور والمؤرخ الكبير بشير الشنيتي كيف يكيفه منهجيا ليكرم مجاهدي وفرسان المنطقة، الذين كانوا يسقطون واحدا تلو الآخر في سمفونية إستشهادية قلما عرفها التاريخ دفاعا عن الأعراض والكرامة والحرية والسيادة. البشير شنيتي ومحاضرة ذاكرة البطولات نورالدين كبير، المثقف العضوي الذي ترعرع وكبر في الياشير المعزولة والبعيدة عن عاصمة وزراء الثقافة ومدن مديري دور الثقافة المعينين سياسيا وربما مخابراتيا بحسب سعيداني لم ينظم تكريما لمثقفي قرية مخمرة الواقعة بين مجانة والياشير تجسيدا لولاء قبلي وعرقي وجهوي كما يمكن أن يعتقد، ولمظلة ريعية تواكب التحضير لعهدة رئاسية رابعة بالضرورة، بناية مدرسة بلواضح الشريف المتواضعة التي احتضنت تظاهرة التكريم، لم تنعم برعاية فوقية سامية سبق وأن ضمنت زردات وولائم فنية وفكرية كثيرة صرفت بسببها الملايين والملايير باسم الثقافة، وحتى يتجاوز الطابع النخبوي الضيق الذي يميز نشاط المدن الكبرى. وجّه نورالدين الدعوة، إلى ممثلي الذاكرة النضالية والتراثية والعلمية الجمعية، لاستعادة تاريخ مجد وبطولات آبائهم وأجدادهم مصاغا على لسان المؤرخ الشنيتي إبن مخمرة المعطاءة، وذلك بشكل خطابي وتحليلي واستقرائي، مزج فيه بين الأكاديمية المعرفية الرصينة والتفسير الموحي والبسيط والدعوة غير المباشرة، لتمثل قيم المحاضرة الفكرية والأخلاقية والنضالية والتجسيد السميولوجي لعملية اتصال أضحت فعالة أمام جمهور تكون من شيوخ أميين استعادوا ماضي القرية النضالي، ومن شبان أضحوا فخورين بإبنهم المثقف الكبير والمحاضر المدهش والخطيب البارع في الإرتجال وفي نقل العبر التاريخية والقيم الثقافية، التي زخرت بها قرية تعد قلعة فكرية وعلمية ونضالية بامتياز. وإذا كان المؤرخ الكبير البشير الشنيتي، محور التكريم الذي بادر به المثقف نورالدين كبير تحت إشراف بلدية الياشير التابعة لدائرة مجانة بولاية برج بوعريريج، فإن مثقفين وباحثين جامعيين وأطباء كثر كانوا من المكرمين ومن بينهم الإقتصادي رابح زبيري، المسرحي الكبير الراحل محمد بن قطاف، وإبن المنطقة حضر بتركته الإبداعية الخلاقة من خلال تكريم بادر به كاتب هذه السطور الذي تشرف بالتأكيد على فرادته في تاريخ الخشبة الجزائرية، ثقافيا أيضا تم تكريم عائلة عمار بلقايدي 1860 1923 مؤسس سيرك عمار العالمي وتلاميذ وتلميذات في سن الربيع، وربما كانت فقرة أدائهم لمشهد مسرحي استنطقوا من خلاله رمزية ألوان العلم الوطني أقوى مفاجأة ثقافية وفنية زادت من عذوبة وسحر وبريق لغة عربية قد تفزع الكثير من سكان أعالي حيدرة، طبعا أقصد سكان ناس إللي فوق.