عندما التقيت بالبشير بومعزة في نهاية التسعينيات بمنزله في نادي الصنوبر حيث كان يقيم وحيدا وسط الكتب، لم أصدق أن هذا الرجل السياسي والمناضل العنيد في سبيل وطنية حديثة وعروبة مستنيرة إنسانية، يمتلك كل تلك المعرفة والذكاء والمخيال، التي تجعل منه فيلسوفا من طراز عال·· كنت حينها رئيس تحرير في الخبر الأسبوعي، وقد طلبني ليتناقش معي حول مقال نشرته في الصفحة الثالثة حول تحولات الوطنية الجزائرية ومآلها·· وعندئذ تدفق وهو يروي جزءا من سيرته النضالية إبان حرب التحرير وما بعدها، ولقاءاته مع المثقفين الغربيين وعدد من ساسة العالم العربي، من بينهم صدام حسين·· كانت قامته النحيلة وملامح وجهه وإشارات يديه وطريقته في الكلام، تكشف عن طاقة شبابية في تفكيره·· كان يتحدث عن المستقبل وكأنه شاب في مقتبل العمر، وليست ثقافته الغزيرة وحدها هي التي تأسرك وتشدك إليه، بل بساطته، عفويته ونظرته الثاقبة إلى ما يقارب الشأن السياسي من موقع ثقافي متعدد وشمولي وثري·· ولم أدر كيف تحول ذلك اللقاء الأول بيني وبين هذه القامة الفكرية إلى صداقة روحية وعلاقة متدفقة فجرت في أعماقي لحظة انبهار بهذا الرجل، الذي كنت أطلب منه كلما جمعنا اللقاء في منزله أن يكتب مذكراته، وعندما يئست من هذا الطلب اقترحت عليه جلسات حوارية، وقد رحب بالفكرة، لكن كان يفضل أن يتحدث في الإستراتيجية والتحولات الجديدة في العالم وفي ديناميكية الأفكار على الساحة العالمية··· كان البشير بومعزة قارئا حذقا ومجادلا بارعا وصوتا لم تنل منه الأيام والمواقع التي عرفها في المسؤولية··· كان صوتا ينبض بالحرية، الحرية التي تجعل من الإنسان و كرامته معركته الحقيقية·· ومن هنا يمكننا فهم ما كان يطرحه البشير بومعزة عن قضايا كانت تتعلق بمستقبل الوطنيات والقوميات العربية وتتعلق بمستقبل البلدان الناشئة ذات الاستقلالات الجديدة وتتعلق بإعادة محاكمة الاستعمار بشكليه التقليدي والجديد·· كذلك كان البشير، وكذلك لابد أن يكون ورثة الفكر الوطني، فكر الحرية ومناهضة الشموليات···