يتميز الفكر الفلسفي الغربي بعدما طلق عوالم المطلق واليقين، واعتنق عالم النسبي وعقيدة الشك، بالحركية وعدم الثبات، لذلك شاعت بعض الألفاظ والمقولات التي تُعبر عن عدم الجدوى والعدمية "النهايات.. المابعديات.. الموت" فتجد مثلا: (نهاية الحداثة، نهاية التاريخ، نهاية البنيوية، نهاية الأيديولوجيا) و(ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الأيديولوجيا) و(موت الإله، موت الإنسان، موت المؤلف). هذه الميزة، إن عبرت عن شيء، فإنما تُعبر عن مدى حيوية الفكر الغربي وحركيته، ولم يأت ذلك إلا بعد فتح باب الحرية للعقل ليفكر فيما هو موجود، ويطرح البديل غير الموجود، المرحلة هذه مرحلة العقل بشّرت بعهد جديد يرجع فيه الإنسان إلى ذاته ويعرف حقيقته بعد أن أنكرها مدة طويلة في ميادين الإعتقاد والفكر الميتافيزيقي، أي أن الإنسان أصبح هو مركز الوجود أو الكون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه الحيوية والحركية تَدُلان على أن العقل يعيش "حالة أزمة" بعدما طوح بالمرجعية المطلقة، وانفرد وحده يبحث عن الأفكار الكفيلة بتحقيق الرفاهية والسعادة للإنسان، وإظهاره العجز عن إيجاد البديل الأفضل لهذا الأخير أي الإنسان-، مما أدى إلى ظهور العديد من الأطروحات التي تُحمّل العقل المسؤولية وتعتبره سجناً "العقل سجن" كما قال عنه الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو"، وتُغيب الكائن الإنساني وتَنفي ذاته، وبعبارة أخرى "موت الإنسان وأفوله"، وليس المقصود بموت الإنسان هنا المعنى الطبيعي أو البيولوجي للإنسان، وإنما المعنى الفلسفي الديكارتي للإنسان الذي صرخ في أوروبا يوماً وقال : لا للإقطاع .. لا لرجالات الكنيسة، وأعلن مقولته المشهورة "أنا أفكر إذاً أنا موجود". نحاول في هذا المقال، دراسة جانب مهم من جوانب عالم ما بعد الحداثة وهو "موت الإنسان"، الذي طرحه الفكر الفلسفي الغربي المعاصر ونطرح التساؤل الأتي: "هل أصبح سُؤال الفلسفة عن موت الإنسان مأزقاً للحضارة؟"، لأن الفلسفة كما هو معروف بعدما أزاحت التفكير في عالم ما وراء الطبيعة جانباً، لم يعد دورها ينحصر في فهم العالم وتأويله فحسب، بل تعدى ذلك إلى تغييره، وهذا منذ أن أطلق "ماركس" أطروحته القائلة "بأن الفلاسفة قد أولوا العالم حتى الآن بينما المطلوب تغييره" حسب هذا المنظور يقول "بول ريكور" "إن زمن التأويل قد انتهى وجاء زمن الفعل" وبذلك أصبح المنتوج الحضاري فيه علامة فلسفية. قد يجد البعض أن هناك تناقضاً بين مقولة "ماركس" وبين العنوان الرئيس لهذا الموضوع، باعتبار أن الفلسفة انتقلت من السؤال والقول إلى الفعل والتغيير، ولكن أي فعل قبل أن يصير فعلا كان في دائرة القول، والقول قبل أن يصير قولا كان عبارة عن سؤالٍ.. فمنطلق الفلسفة إبتداءً هو السؤال، وسؤال الفلسفة في البداية كان "هل الإنسان مات؟" أسوةً بسؤال "نيتشه" يوماً "هل الله مات؟". هناك ثلاث أطروحات نستعين بها لكي نصل إلى نتيجة تخدم الموضوع، وما يجمع هذه الأطروحات هي اختزالها للإنسان في زاوية معينة، ولعل ما يُؤاخذ على الفكر الفلسفي الغربي على العموم هو اختزاله للإنسان كجزء من الطبيعة "المادة" دون الأخذ بالإعتبار الجانب الرمزي أو الإنساني للإنسان، وهذا منذ أن أصبح يُنظر للموجودات كظواهر وسطوح دون الإمعان في الجوهر والأعماق. وعملية اختزال الإنسان، هي عبارة عن نفي بعض المكونات وتجريده من خصائص معينة، وبما أن الإنسان "ككل لا يتجزأ" فإن نفي بعض المكونات هو في نهاية الأمر، وفي التحليل الأخير موت لهذا الكائن الذي يسمى "الإنسان". 1 - الماركسية: يعتبر الفكر الماركسي "العامل الإقتصادي" العامل الوحيد والموجه والمحدد للسلوك الإنساني، وبالتالي فهو يَنفي ويُغيب الكائن الإنساني ويجعل سلوكه خاضعاً إلى شروط خارجة عنه، فعندما يتحدث الفيلسوف الماركسي"لويس ألتوسير" عن التاريخ، فأنه يحدده بكونه عملية تتحرك دون ذات فاعلة ومؤثرة حيث يقول عنه: "إنه عملية دون ذات". لذلك، فقد قامت الماركسية بتغييب الكائن الإنساني ونفيه، بجعله خاضعاً إلى بنية خارجة عنه ومتحكمة فيه، وكأنها تَنظر إلى الإنسان وتُصوره كظاهر دون جوهر، سطح دون عمق، موضوع دون ذات. 2 - التحليل النفسي: تعتمد نظرية التحليل النفسي على ثلاث ركائز أساسية، هي اللا شعور (أحداث الماضي) والهو (الرغبة الجنسية) والأنا الأعلى (المجتمع والأب..)، هذه الركائز تُؤثر في حياة الإنسان وسلوكه مما تجعله أي الإنسان خاضعاً لها. هذا التصور الخاص الذي يقدمه "سيجموند فرويد " بحسب العديد من الدارسين والباحثين، يؤدي إلى إلغاء الكائن الإنساني وذوبانه، حيث يجعله خاضعاً لإشراطات "الهو" ومحكوماً بمحددات اللا شعور. يقول الباحث الليبي فرج بوالعشة: "مع فرويد نكتشف هبوط الخطاب الفلسفي إلى ما وراء الوعي، والأحرى، تحته بدلا من صعوده إلى السماء ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا)، ونغوص معه في اللا وعي البشري حيث بذرت المخاوف والطابوات والذنوب والإكراهات". ومن ثم، ففرويد يرى بأن "القوة التي تستخدم العقل لتنفيذ أغراضها وسائل ملتوية هي الرغبة المكبوتة وراء الوعي". ونخلص في نهاية الأمر، أن التحليل النفسي يقضي على القوة المفكرة المتمثلة في "العقل" ويجعل السلوك الإنساني رهين الرغبات المكبوتة في اللا شعور أو تأثيرات الهو. 3 - البنيوية: أعتبر العديد من المفكرين والباحثين البنيوية، بأنها "فلسفة موت الإنسان" لأنها عبارة عن شكل من أشكال التفكيك والتقويض الذي يهدف إلى إلغاء الكائن الإنساني وجعله خاضعاً لمنظومة لغوية أو أسطورية وتفسير ذلك بأن "البنية التي قيل إنها كامنة في عقل الإنسان، أمر لا شعوري يقع خارج إرادة الإنسان، فالإنسان في المنظومة البنيوية ليست له إرادة مستقلة أو وعي مستقل، هو مجرد مفردة تُشكل منها جمل لغوية ومنظومات أسطورية، والذات الإنسانية الواعية إن هي إلا جزء من بناء ضخم يتحرك حسب هواه أو قوانينه، وما الذات سوى حامل ترتكز عليه البنية ". وحسب هذا المنظور، أصبح الإنسان خاضعاً لمنطق البنية المتماسكة، سواء أكانت لغوية أم أسطورية، وبدلا من أن يكون صانعاً للغة خالقاً لها صار إفرازاً لغوياً، والنتيجة الأخيرة من كل ذلك هي موت الإنسان. قبل الختام، لابد من الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن موت الإنسان الذي أوجدته اللحظة الديكارتية وتضخم في المئتي سنة الأخيرة، فيما عرف بالمركزية أو النزعة الإنسانية، كانت نتيجةً طبيعيةً وأمراً متوقعاً بعد موت الإله وأفوله، لذلك فقد تنبأ الفيلسوف الشهير "ميشال فوكو" ب "موت الإنسان" حيث اعتبر الإنسان مجرد اختراع حديث العهد، مجرد انعطاف في المعرفة، وسيختفي عندما تتخذ هذه المعرفة شكلا جديداً. والإنسان الذي يقصده فوكو وينعيه بالإختفاء والموت هو "ذلك الإنسان الواعي والمسؤول والمالك لزمام أمره، والفاعل في تاريخه بفعل تضافر إرادته أو الإمكانيات التي توفرها علومه، إنسان الطموح والحقوق والواجبات"، وسبب موته واختفائه هو سقوط تلك "الصورة المثالية التي كانت عالقة بأذهاننا عن الإنسان بفعل ممارساته البشعة، وتصرفاته المشينة واللا أخلاقية من خلال الإستعمار والنازية والفاشية والستالينية .."، بالإضافة إلى الصهيونية الممثلة في إسرائيل وأمريكا بوش. وعودةً إلى السؤال السابق، نجد أن سؤال الفلسفة عن موت الإنسان وغيابه، أصبح مأزقاً للحضارة وهمها الأول والأخير، نتيجة عالم الفوضى الذي تعيشه الإنسانية.. عالم اللا معنى والتيه.. عالم الحروب والجوع والتلوث البيئي والأمراض الفتاكة.. عالم لم يَنجب لنا هتلر فقط، بل أنجب شارون وجورج بوش وأولمرت.. عالم أفرز الديكتاتورية التي تَلبس عباءة الديمقراطية والحرية دون خجل أو حياء.