لاتشبع باريس، من تكريم السينمائي السويدي الراحل إنغمار برغمان وتخليد ذكراه عبر وسائل فنية متعددة ومتنوعة، تتأرجح بين المعارض الفوتوغرافية وعرض الأفلام والمسرحيات. وفي هذا الصدد، تقدم دار سينما «نوفو لاتينا» الباريسية حالياً في طابقها العلوي، المحول إلى قاعة معارض، نخبة من الصور الملتقطة فوق مسرح (Plateau) من تصوير أفلام برغمان والتي تشكل لقطات من هذه الأفلام بالتحديد، أو أخرى تظهر فيها بطلات الأعمال إياها، حال ليف أولمان التي ارتبطت به قبل أربعين سنة حينما كان يعمل على (برسونا) ومن ثم أصبحت نجمة ثمانية أفلام أخرى له في السنوات اللاحقة (إبنتهم لين هي الآن روائية)، وجارييت أندرسون الأنثى التي تثير الرغبات الخامدة في (صيف مع مونيكا) و(الليلة العارية)، وبيبي أندرسون الشقراء التي جسدت شخصية الفتاة المرحة التي تنير ظلامية (الختم السابع) و(الفراولة البرية)، والممثلة الجميلة إنغريد برغمان التي توفيت في العام 1982 بمرض السرطان..وغيرهن من النجمات اللواتي حوّلهن الفنان العبقري أساطير بفضل قدرته الفذة على التقاط خبايا النفس النسائية وروح المرأة الكامنة وراء مظهرها أياً يكن. غير أن إحدى صالات الدار نفسها، تعيد عرض سبعة من أهم أعمال برغمان السينمائية، إثر ترميم نسخها وتحويلها إلى رقمية طبقاً لأحدث الوسائل التكنولوجية، وبين أجمل الأفلام المقدمة هناك «برسونا» (Persona) المصور بالأسود والأبيض في الستينات من القرن العشرين، والذي يمكن النظر إليه على أنه درس في السينما من حيث التصوير وإدارة الممثلات والإضاءة والسيناريو وأسلوب معالجة الحبكة، والأفلام الأخرى في هذا التكريم هي «سوناتا الخريف»، «ابتسامة ليلة صيف»، «المنبع»، «لقطات من الحياة الزوجية»، «الختم السابع» و«الفراولة المتوحشة». وستتخلل هذه العروض التي بدأت الأربعاء الماضي، مجموعة من الندوات بمشاركة أساتذة جامعيين متخصصين في السينما، ونقاد وفنانين ملمين بحياة برغمان وأعماله، ويكرم المسرح بدوره إنغمار برغمان من طريق عرض «سوناتا الخريف» في باريس وفي جولة أوروبية، بمشاركة كل من الممثلتين البارعتين رشيدة براكني وفرانسواز فابيان. بدا برغمان عنيفاً في تشريحه معالم الحياة والعيش على التخوم الضائعة بين القسوة والغضب، سينماه حملت أسئلة القلق الإنساني الوجودي الكبرى، تماماً كما حملت هموم العيش العادي للناس البسطاء، موهبته هي أن يبحث دائماً عن المعنى الكوني في داخل صراعه الخاص وغالباً ما أخذ عليه تحويل الآلام والجراح إلى كلمات بليغة والكوابيس إلى صور يتعذر نسيانها، إن مزيجا من الشعور بالخطيئة والإحساس بالعظمة هو الذي جعل برغمان في سنوات الخمسينيات والستينيات رمزا حيا للفيلم كفن راق ومع انهماكه الجدي والعميق في دراسة الله والموت والحب والجنس كان يلقب بشكسبير السينما. «لم يمر يوم من حياتي إلا وفكرت فيه بالموت"، هكذا يقول أنغمار برغمان متأملاً أثناء مقابلة طويلة تشكل العمود الفقري للفيلم الوثائقي "جزيرة برغمان" الذي يكشف بصورة إستثنائية الصورة الشخصية الوثائقية لهذا المخرج السويدي في بيته عند جزيرة "فارو" المهجورة في البلطيق. هاجس الموت، كثيراً ما رافق إنغمار برغمان، وطيفه يكاد يخيّم على معظم أفلام المعلّم السويدي الذي رحل، على عتبة التسعين، محَصَّناً بعزلته الأليفة في جزيرة فارو، بعد أن أتحف ذاكرة العصر بأكثر من خمسين فيلماً سينمائياً، وتسعين مسرحية وبضعة كتب رائعة . ولد إنغمار برغمان، في الرابع عشر من جويلية 1918، في المدينة الجامعية السويدية العريقة أوبسالا، التي تقع على بعد 60 كلم إلى الشمال من استوكهولم.. في العام 1932 صار برغمان، كهاوٍ وليس كمحترف، مخرجاً في مسرح "ماستر أولوف - غاردن" وبرغمان الذي اختلط بدوامة هذه "الحياة الشبيهة بالكابوس"، كتب في العام 1942 مسرحيته "موت غاسبار"، ثم كتب في العام 1944 مجموعته القصصية القصيرة "قصص غاسبار"، وكتب لاحقاً مسرحيات تولى إخراجها بنفسه: "تيفولت" (1943)، "راشل وبواب السينما" (1945)، "النهار ينتهي بسرعة" (1947)، "إنني خائف" (1947)، "من دون نتيجة" (1948)، "هواجس" (1948)، "مقتلة في باريارنا" (1952) و«رسم على الخشب". لكنه منذ العام 1944، بدأ يدخل استوديوهات السينما ليكتب سيناريو فيلم "العذاب" للمخرج "الف سويبرغ" ليتجه في العام التالي للإخراج بفيلم "أزمة" ثم "إنها تمطر على حبنا"1946 و«سفينة إلى الهند" و"موسيقى في الظلام" 1947 و«الميناء "، "السجن" 1948، "الظمأ" 1949، "ألعاب الصيف" 1950، "إنتظار النساء" 1952 و"إبتسامات ليلة صيف" 1955 الذي ينال عنه جائزتين بمهرجان كان ويطلق إسمه في السينما العالمية. ومن أشهر أفلامه السينمائية "الختم السابع"(1957) "التوت البري" (1957)، "الصمت" (1963)، "صورة من حياة زواج" (1973)، وآخر أفلامه كان "فاني وألكسندر" الذي أخرجه عام 1982 وحاز أربع جوائز أوسكار منها جائزة أفضل فيلم أجنبي.. منذ البداية صاغ برغمان توجهه على الشكل الآتي "المسرح هو زوجتي والسينما هي عشيقتي" ومنذ ذلك الحين كرس نفسه للمهمتين في آن معاً. وفي معظم أفلامه، تطرق برغمان إلى موضوعات شائكة، مثل الشقاء والجنون الذي تخلفه التقنية الخلاقة المعاصرة ويغوص عميقا في الروح البشرية، يستنجد بالذكريات فهو الذي قاد التحول عندما توغلت روح لغة السينما في ثنيات المحكي والمعاش إلى اللا وعي المقفل، ولم يعد من مكان لسؤال تقليدي قديم مفاده (هل وفى الفيلم للحكاية)؟، إن ذلك العالم المشبوب المغلق الذي تنطلق من (نواته) حكايات لا تحصى ما انفكت كاميرا مدير تصويره في معظم أفلامه وصديقه (نيكفست) تلاحقها بلا هوادة..